عاصم عبد الخالق


في الشهر الخامس من رئاسته، تبدو معالم السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي ترامب واضحة تمام الوضوح. اهتدى ترامب إلى الصيغة الأكثر أماناً وقبولاً وهي التشبث بالواقعية التي حكمت وتحكمت في السياسة الخارجية لكل الرؤساء الذين سبقوه منذ الحرب العالمية الثانية. لم يحدث ما خشي منه منتقدوه في الخارج والداخل، فلم يحاول التمرد على الثوابت الأساسية التي ضبطت عمل الإدارات السابقة مع اختلاف توجهاتها وتكتيكاتها ورؤيتها لكيفية تحقيق المصالح الأمريكية في العالم. 

لم يصنع ترامب انقلاباً أو تغييراً جذرياً في السياسة الخارجية لبلاده. اختفت المهاترات الانتخابية التي أطلقها بلا حساب لتحل مكانها اللغة الدبلوماسية التقليدية الرصينة، ولو مع بعض الاستثناءات بين وقت وآخر. تراجعت التهديدات غير المدروسة، وفرضت مسؤوليات المنصب ومقتضيات الأمن القومي نفسها على الخطاب السياسي للرئيس، حتى مع بعض الهفوات التي يبدو أنه لا مفر منها. أصبحت كلماته وتغريداته منتقاة بعناية، وتراجع خطابه الشعبوي. وأصبح ترامب رئيساً جمهورياً تقليدياً وكذلك سياسته الخارجية.
ورغم الانتقادات الموجهة إليه إلا أن الواضح أن ترامب الرئيس يبتعد يوماً بعد يوم عن ترامب المرشح. ومظاهر هذا الابتعاد تبدو أوضح ما تكون في سياسته الخارجية. لم يندفع بعد انتخابه لتنفيذ تهديداته ووعوده بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران. تراجع أيضاً عن وعوده بإعادة النظر في الالتزام بسياسة صين واحدة أي الصين وتايوان وهي من الثوابت المقدسة لبكين وقد احترمتها الحكومات الأمريكية المتعاقبة. 
نسي ترامب كذلك تهديداته بفرض رسوم تصل إلى 45% على الواردات الصينية. بل اكتشف أن إغضاب بكين غير مفيد لأنها يمكن أن تقوم بدور مهم في الضغط على كوريا الشمالية. هذه الأخيرة أيضاً كانت هدفاً لتهديداته خلال الانتخابات إلا أنه توقف عن ذلك تماماً، بل لا يمانع في لقاء زعيمها، ولا يهدد باستخدام القوة ضدها.
وإذا كان ترامب يثير بتصريحاته قلق الحلفاء في الناتو إلا أنه لم يرهن التزامه بالدفاع عنهم بتسديد حصتهم المالية التي يريدها. كما سار على نهج كل الرؤساء السابقين بطمأنة الحلفاء في آسيا بدعم أمنهم في مواجهة التمدد الصيني والاستفزازات الكورية الشمالية.
رحلة ترامب إلى الواقعية تشمل محطات أوروبية أخرى، حيث توقف عن الإشارة إلى سحب قوات الناتو من بولندا ودول البلطيق. وفترت حماسته الانتخابية لروسيا التي اختار أن يعاملها كخصم استراتيجي كما فعل أسلافه في البيت الأبيض، ومن ثم أبقى على العقوبات المفروضة عليها بسبب الأزمة الأوكرانية. 
في الشرق الأوسط تبدو ملامح واقعية سياسته واضحة. اختار السير على نهج السابقين، فنسي إلى حين وعوده بنقل السفارة إلى القدس. ولم يعاود الحديث عن دولة واحدة للفلسطينيين و«الإسرائيليين» عوضاً عن الدولة الفلسطينية المستقلة. حتى المستوطنات التي كان متحمساً لها طلب بوقفها لبعض الوقت. 
في سوريا اختار الطريق الذي سلكه أوباما من قبل متبنياً موقفاً غامضاً حول مصير الأسد، ومؤكداً أن هدفه الأول هو القضاء على «داعش». تجنب الاندفاع إلى إرسال قوات إلى سوريا أو العراق مكتفياً بما فعله أوباما من الدفع بخبراء عسكريين وفرق عمليات خاصة محدودة مع الاعتماد على القوات المحلية في البلدين.
وتقدم تشكيلة فريق الأمن القومي المعاون للرئيس دليلاً إضافياً على انتصار الواقعية في مواجهة الأيديولوجية والخطاب الشعبوي. بدا هذا الانطباع أكثر وضوحاً مع استقالة مايكل فالين مستشار الأمن القومي ثم استبعاد مستشاره اليميني المتشدد ستيف بانون من مجموعة الأمن القومي.
لا يعني هذا أن ترامب بات رئيساً مثالياً أو أنه يتبنى سياسة خارجية نموذجية. ولكن قياساً على تصريحاته السابقة يمثل توجهه الحالي تقدماً طيباً ومريحاً. كلما بعد ترامب الرئيس عن ترامب المرشح كان ذلك مفيداً للعالم.