عبد المنعم سعيد

الأزمة بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من ناحية وقطرـ ومن ورائها إيران وتركياـ من ناحية أخرى سوف تأخذ وقتها؛ والجهود الكويتية للوساطة أبلغت الرسالة إلى الدوحة واضحة جلية وهي أنه لا أحد يريد عقاب قطر، ولا أحد يريد تحميل الشعب القطري الشقيق أعباء فوق الطاقة، فكل ما يريده الأشقاء في مجلس التعاون وفي القاهرة هو أن تتوقف قطر عن دعم الإرهاب وتمويله وتسليحه، واللعب على حبال التحالفات العربية في جانب، وإيران وتركيا وأدواتهم في جانب آخر. ولكن الأمر المهم فيما جرى كان أن الأزمة كما يقال في المعنى الصيني تحتمل المخاطرة كما أنها تكشف عن فرص؛ وربما كان قلب الفرصة هو تكوين هذا التحالف الرباعي في لحظة مهمة ومعقدة لكي يرسل رسالة مهمة إلى قطر، وأكثر من ذلك يواجه معا رد الفعل الدولي والإقليمي لواقعة قطع العلاقات الدبلوماسية. لقد تكونت على أرض الواقع السياسي والدبلوماسي، كما هو حادث في الاستراتيجي، أن تلاقت إرادات أربع دول عربية مهمة على التحرك معا ليس فقط من أجل إيقاع الهزيمة بالإرهاب ومن يتعامل معه، وإنما أكثر من ذلك إعادة الاستقرار إلى المنطقة وإقامة نظام للأمن الإقليمي يكفل الرخاء والازدهار لشعوبها.
ولحسن الحظ أن الظرف قد بات مواتيا لما هو أكثر وأوسع من إجراءات وترتيبات. فقد قام مجلس النواب المصري بالموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية حسب الإجراءات المتبعة في النظام السياسي المصري؛ وبعد مواجهة بين الحكم والمعارضة، حاولت فيه قطر، وما زالت، أن تلعب على كافة أشكال المراهقة السياسية. لقد فشلت محاولة اختزال الاتفاقية في موضوع جزيرتي تيران وصنافير بينما هي تشمل مساحة ممتدة من رأس خليج العقبة في الشمال وحتى خط عرض 22 جنوبا. من الناحية الاقتصادية البحتة، وعلى جانبي البحر الأحمر فإن إمكانيات اقتصادية جبارة وواعدة تتيح للبلدين إقامة منطقة واسعة للأمن البحري من الناحية، والرخاء المشترك من ناحية أخرى. والحقيقة أن «رؤية السعودية 2030» و«رؤية مصر 2030» كلتيهما تعول تعويلا كبيرا على الاستغلال الاقتصادي الكبير لمنطقة البحر الأحمر بحراً وبراً وجزراً، وسياحة وتعديناً، وجسراً واعداً متعدد الأبعاد بين الجزيرة العربية ومصر. وللحق فإن هناك تجسيداً حياً لفكرة الجسر جاءت في الرؤية السعودية التي جعلت منه دعما للموقع الاستراتيجي للمملكة بمده إلى منطقة شرق البحر المتوسط عبر قناة السويس. ولم تكن هناك صدفة أن الاتفاقيات التي جرى توقيعها أثناء زيارة خادم الحرمين الشريفين للقاهرة في أبريل (نيسان) 2016 تتضمن تنمية سيناء بما قيمته 5.1 مليار دولار، وإقامة جامعة الملك سلمان في مدينة رأس سدر على الجانب الآخر من خليج السويس.
الرؤية المصرية تتلاقى مع الرؤية السعودية في ذات الساحة السيناوية حيث بدأت مصر مشروعا طموحا يتجاوز بكثير ما هو قائم حاليا من نفق الشهيد أحمد حمدي، الذي يربط مدينة السويس ووادي النيل من ورائها بمنطقة جنوب سيناء، وجسر السلام الذي يربط الوادي بشمال سيناء، ومشروع السوميد الذي ينقل النفط الخليجي من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض. هذا المشروع يقوم على ستة أنفاق أسفل قناة السويس تكفل انتقال البشر والسيارات والسكك الحديدية والبضائع بين الجانبين. ولعل مشروع محور قناة السويس في مصر الآن هو أضخم المشروعات التنموية التي عرفتها مصر في تاريخها الحديث، وهو يقوم على مثلث رأسه ميناءي بورسعيد ودمياط في شمال قناة السويس، وقاعدته طريق القاهرة العين السخنة الذي تشغله العاصمة الإدارية الجديدة في المستقبل القريب، وضلعه الشرقي هو قناة السويس والغربي فرع نيل دمياط. وأسفل هذا المثلث توجد العملية التنموية لربط صعيد مصر بالبحر الأحمر بشبكة من الطرق العرضية، وتحيطها من كل الجوانب مشروع «المثلث الذهبي» القائم على استغلال الثروات التعدينية الكبيرة في المنطقة، فضلا عن فوائدها السياحية الضخمة التي تدور حول مدن الغردقة وسفاجا والقصير ومرسى علم، وجنوبهم جميعا توجد المنطقة البكر تنمويا واقتصاديا الممثلة في حلايب وشلاتين.
الرؤيتان السعودية والمصرية كلتاهما تصب في الأخرى، وتعطي مساحة هائلة للتعاون المشترك والنجاح المشترك أيضا. وربما كانت النقطة الطبيعية للبداية في هذا الشأن هي تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، لأنها سوف تضع حجر الأساس الذي ستكون لها نتائج سياسية مهمة بقدر ما هي اقتصادية. الجزء السياسي يثبت أن معارضي الاتفاقية في مصر خاصة كانوا على خطأ بالغ عندما اختزلوها في قضية الجزيرتين لأن حقيقة الاتفاقية سوف تؤدي إلى إحياء أكثر من 81 جزيرة واقعة داخل المنطقة الاقتصادية البحرية المصرية؛ وأظن أن هناك مثيلا لها على الجانب السعودي. وهنا تحديدا فإن الاتفاقيات الموقعة بين القاهرة وللرياض ربما تشكل إطارا محمودا للتشاور والتباحث حول المصالح المشتركة للطرفين. ولكن الرؤيتين السعودية والمصرية من الطموح فيها ما يدفع إلى ما هو أكثر وهو إعلان المنطقة الاقتصادية للبلدين في البحر الأحمر منطقة للتعاون والرخاء المشترك هدفها أولا تأمين الملاحة في البحر الأحمر ضد كل أنواع التهديدات. وثانيا تطوير برنامج طموح للتنمية المشتركة يبدأ بجزيرتي تيران وصنافير بحيث تكون نقطة للتلاقي وليس سببا للبعاد بين الشعبين السعودي والمصري من خلال جسر الملك سلمان. وثالثا فتح نافذة كبرى للاستثمار بعيد المدى بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والكويت وعمان وحتى قطر بعد أن تفيق من غفوتها وتتوقف عن دعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في المنطقة.
مثل هذا المشروع يحتاج إلى آلية تضع له الخطط ووسائل التنفيذ وتعطي الأطراف المشاركة فيه الفرصة لكي تحقق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. والحقيقة أن هناك سوابق لمثل ذلك كما هو الحال مع مشروع «السوميد» الذي أثبت نجاحا فائقا في التعاون الاقتصادي؛ ولكن ما نتحدث عنه هنا فهو أوسع نطاقا، وأكبر جغرافيا، ومتنوع في الأهداف. هذه الآلية يمكن أن تكون مجلسا مشتركا يكون مسؤولا أمام قيادة البلدين يقدم لها الخطط والتصورات ووسائل التنفيذ. بشكل ما فإن «المنطقة العربية للأمن والرخاء المشترك» يمكنها أن تقوم بما قامت به من قبل «جماعة الحديد والصلب» التي كانت البداية الأولى للسوق الأوروبية المشتركة والجماعة الأوروبية والآن الاتحاد الأوروبي، فقدر كبير من التعاون الكثيف في موضوع مهم يكون له في العادة عامل للانتشار إلى مناطق وموضوعات أخرى. ورغم أن الأحلام دائما مشروعة، فإن القضية الآن هي كيف نبدأ من النقطة الراهنة بعد موافقة مجلس النواب المصري على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، ونصل بها إلى إنشاء المنطقة المشار إليها. إن الشعوب تنظر إلينا والتاريخ يرقبنا، ويبحثان عما إذا كانت الأجيال الحالية سوف تكون قادرة على انتهاز الفرص القائمة والمتاحة؟