ناصر الحزيمي

قبل أيام جاء في الأخبار أن روسيا تقول بأن من المحتمل أنها قد قتلت (أبا بكر البغدادي) في غارة على اجتماع لهم. السؤال المهم هنا فيما لو أن البغدادي قتل فعلاً عن مدى تأثير غيابه عن مشهد الأحداث! وهو الرجل القليل الكلام. وكما عهدنا أن أبابكر البغدادي الذي أطلق عليه اسم أمير المؤمنين؛ لم يكن في يوم من الأيام واسع العلم حاضر الحجة كما كان يبدو من (أسامة بن لادن) سابقاً و(أيمن الظواهري) فيما بعد، فهذا الرجل أي (البغدادي) كان يعتمد اعتماداً كلياً على ساعده الأيمن ومنظر "داعش" (أبو محمد العدناني). فالعدناني هو الذي دافع وبشراسة عن إعلان قيام التنظيم في العراق والشام، ثم دافع عن البيعة للبغدادي وذلك حينما انهالت على جماعة البغدادي رسائل الاستنكار والتبرؤ من إعلان قيام ما يسمى الخلافة الإسلامية في العراق والشام. البغدادي لم يكن في يوم من الأيام يمثل عند فصيل عريض من جماعات العنف أي سمعة جاذبة لا من الناحية العلمية، والتي كانت محدودة جداً، ولا من الناحية الجهادية الحركية، فالرجل ليس له تاريخ يُذكر في الجهاد الافغاني، وليس له مواقف تذكر له كمعارض سياسي في الفترات التي سبقت سقوط صدام حسين. فهو صنيعة الأحداث اللاحقة وتحديداً مرحلة (أبو مصعب الزرقاوي)، فالرجل تتجاذبه الأفكار المتطرفة الطائفية الوطنية، والتي مزجت بأفكار هجينة استقاها من الزرقاوي. ومن يتابع أخبار وأفكار "داعش" سيجد غياباً كاملاً ومطلقاً لأبي بكر البغدادي، فهذا الرجل سمعته أكبر من حقيقته وشخصيته مريبة.

لقد تعودنا من خلال اطلاعنا على الكثير من أدبيات جماعات العنف أن القائد عادةً يتحلى بشيء من المعرفة بالأدلة الشرعية، ولكي تضفي هذه الجماعات شيئاً من العلمية الشرعية على سلوكها نجدها توجد لجنة شرعية تمثل عندها الجانب الشرعي تسير بمقتضى فتاواها. أما البغدادي وتنظيم (داعش) فقد اهتما بالدرجة الأولى على جانب النكاية من غير أن توجد الدليل الشرعي على ذلك، فساروا في تنظيمهم الراديكالي والمتطرف نحو الهاوية.

مرحلة داعش في حال انتهائها لا تعني بالضرورة انتهاء التطرف والعنف الذي تسبب في خسارتنا لكثير من مواقعنا المتقدمة في الفكر الإنساني.. فشباب الأمة يجب أن نوجد لهم حلولاً لمشاكلهم وتطلعاتهم، فالتطرف يولد تطرفاً آخر بهوية جديدة ولباس جديد..

إن الدول لا تقوم بجلد الزاني، أو رجمه، أو التنمر بالتهديد، والوعيد للحلاقين لأنهم يحلقون اللحى، ولا تقوم بإصدار العملة المعدنية من الذهب أو الفضة كما حدث مع داعش، ولا بالتمترس الدائم خلف الأطفال والنساء والعزل بذريعة جواز ذلك. وبما أننا ذكرنا التمترس هنا، فإن جماعات العنف قد فهمته بشكل خاطئ ومطلق، فالتمترس المقصود هنا والذي ذكره (ابن تيمية) ليس هو التمترس الذي ذهبت إليه داعش، فابن تيمية قد ذكر جواز قتال الأعداء ويقصد هنا التتار، وإذ تمترسوا بالنساء والذرية، وذلك لتحقيق مصلحة أكبر. أما داعش والتي فهمت هذا المفهوم بشكل مقلوب فهي تتخذ تمترسها بالنساء والذرية والعزل سلوكاً، فالمتمترس هنا غير المتمترس الذي ذكره ابن تيمية. إن ألاعيب داعش وضلالاتها المتعلقة بالقتال لم تراع أي حرمة من حرمات الدم، ولم تأخذ بالمصلحة التي يقتضيها حال النساء والعزل. وكما قلت إن جميع هذه الدماء في رقبة أيمن الظواهري والقاعدة. فالقاعدة هي التي نظرت إلى جواز انتهاك حرمة الدماء المعصومة، وهي التي يسرت لكل متطرف الوصول إلى هذه المفاهيم الضالة. فلو عدنا الى ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم-، من تشديد ووعيد لكل من ينتهك حرمة الدماء لعلمنا كيف أن الإسلام قد ضمن حفظ الدماء وتوعد من ينتهكها، حتى عد ذلك من كبائر الذنوب. فالرسول يقول حينما دخل مكة فاتحاً (إنما أحلت لي ساعة من زمان) فما بالك بمن جعل القتل أمراً مشاعاً ومحبباً وميسراً لكل متطرف ضال عن الطريق الصحيح. لهذا نجد أن الدعوة إلى الإسلام لم يكن انتشارها بالدرجة الأولى بالسيف وإنما كانت بالحكمة والموعظة الحسنة. هل من المفترض بي أن أقول إن الإسلام جاء بمقاصد شرعية تحفظ النفس والمال والعقل والشرع، وللأسف أن مثل هذه الأشياء لا يمكن أن تصل إلى إفهام الجماعات المتطرفة والتي اتخذت وبطرق عمياء سبيل التوحش والتطرف. ومن أدرك أيامنا هذه وما استجد فيها من محن وعنف وتوحش وضلالات سوف يدرك عن وعي لمَ افتى الإمام أحمد فتواه المهمة في ذم الخروج على الأمة بالسيف، فالإسلام الأصل فيه أنه دين محبة ودعوة بالحسنى وطلب للعدل ونبذ للشرور، ولم يكن في يوم من الأيام دين عنف وانتحار.

إن أهم دور يجب أن يقوم به العلماء والحكماء الربانيون في الأيام القادمة هو بذل الجهد لإزالة ما علق في الأذهان من أفكار خاطئة ضد الإسلام وعلماء الأمة والمجتمعات الإسلامية. فمرحلة داعش في حال انتهائها لا تعني بالضرورة انتهاء التطرف والعنف الذي تسبب في خسارتنا لكثير من مواقعنا المتقدمة في الفكر الإنساني. فشباب الامة يجب أن نوجد لهم حلولاً لمشاكلهم وتطلعاتهم، فالتطرف يولد تطرفاً آخر بهوية جديدة ولباس جديد. إن الاهتمام بالأجيال القادمة ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً يجب أن يكون على رأس الأولويات، فلا يكفي أن نجفف منابع تمويل الإرهاب لكي نتغلب عليه، بل يجب أن نعمل ضمن برنامج متكامل يتناول تجفيف المنابع "والحوار الثقافي" وتأكيد الرؤى السوية في مجتمعاتنا. وأنا أظن لو أن سيد قطب أتيح له أن يعيش حتى زماننا هذا لتراجع عن كثير من الأفكار المؤسسة للتطرف مثل كتاب (معالم في الطريق) وكتاب (في ظلال القرآن)، فهذه الكتب هي التي أصبحت دستور التطرف عند الجماعات الراديكالية.