صالح القلاب 

حتى قبل أن يقول السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد ما قاله، في حديثه الاثنين الماضي لهذه الصحيفة («الشرق الأوسط»)، ويفجر قنبلة سياسية فعلية بكشف النقاب عن أن الولايات المتحدة قد أعطت السوريين، أي الشعب السوري، «أملاً زائفاً»، وأن سيرغي لافروف قد خدع جون كيري، وأنه «كان يعامله كطفل»، فإن ما كان واضحاً من تعاطي الإدارة الأميركية السابقة، إدارة الرئيس باراك أوباما، خصوصاً في سنوات ولايتها الثانية، مع أزمة سوريا هو أنَّ واشنطن قد تخلت للروس عن كل شيء في هذا البلد «الاستراتيجي»، وأنها أيضاً قد سهلت للإيرانيين، وبتواطؤ مقصود، أن يصبحوا رقماً رئيسياً في المعادلة السورية الجديدة السياسية والعسكرية.
لقد قيل الكثير حول ميوعة ورداءة تعاطي إدارة باراك أوباما مع الأزمة السورية، التي تحولت مع الوقت إلى أزمة إقليمية ودولية. وهنا، فإن الخوف كل الخوف هو أنْ تتخلى هذه الإدارة الجديدة، إدارة دونالد ترمب، عن كل ما كانت قد وعدت به بعد فوزها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إنْ إزاء الروس وإنْ إزاء الإيرانيين، وأنْ تأخذ بمعادلة: «إن الأولوية يجب أن تكون لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي»، وتترك روسيا وإيران تفعلان ما تريدانه، ليس في سوريا فقط بل في هذه المنطقة الملتهبة كلها، التي هي «استراتيجية» وستبقى «استراتيجية»، ليس إلى نهاية هذا القرن بل إلى نهاية القرن الذي يليه!!
لقد كان على هذه الإدارة الأميركية أن تدرك قبل أن تضع أقدامها في هذه المنطقة «الاستراتيجية»، أن هذه المنطقة هي التي ستحدد نتائج ذلك الصراع المحتدم فيها، وموازين قوى هذا القرن كله. وهنا، فإنه إذا أردنا الاستعانة بأي مقارنة، وأي تشبيه، فعلينا أن نعود إلى الحرب العالمية الأولى، حيث كانت نهاية الإمبراطورية العثمانية وبداية الإمبراطورية السوفياتية.
جاء في «ميدل إيست بريفينغ»: إن الهدف النهائي للرئيس فلاديمير بوتين هو كسر ما يراه نظاماً عالمياً أحادي القطبية، تهيمن عليه الولايات المتحدة. وهكذا، فإن إيران قد راهنت على موسكو للحصول على ما تعتبره حصتها في هذا الشرق الأوسط، حيث إن الرئيس الروسي قد عرض على العرب في هذا المجال: «إمّا الانفصال عن الولايات المتحدة، وإمّا أنه سيسمح للإيرانيين بأبعد مما قاموا به في هذه المنطقة حتى الآن»!!
لقد كان على إدارة باراك أوباما أن تدرك أنه ستترتب على نتائج الصراع في سوريا معادلات قوى دولية ستستمر حتى نهايات هذا القرن، ثم كان عليها، الإدارة الأميركية السابقة، أن تضع في اعتبارها وهي بصدد التعاطي مع الأزمة السورية، ومع كل هذا الصراع المحتدم في هذه المنطقة، أن التقارب بين روسيا الاتحادية وإيران ليس مرحلياً وعابراً؛ إنه تحالف استراتيجي سيستمر لفترة طويلة (ميدل إيست بريفينغ). ويقيناً لو أن الإدارة الأميركية السابقة وضعت في حسبانها هذا الاعتبار بينما هي منهمكة بهذه الأزمة، لما كانت قد تصرفت بتلك الطريقة التي تصرفت بها، وتركت المجال واسعاً للروس كي يسيطروا على هذا البلد الذي فتحوا أبوابه للإيرانيين.
قبل أيام قليلة، أطلق بوتين تصريحاً قال فيه إن التدخل الخارجي قد فاقم الأزمة السورية، وهذا يعني أنه لا يعتبر التدخل الروسي في هذه الأزمة تدخلاً خارجياً، وأنه قد قال هذا الذي قاله من قبيل الاعتراض على توجهات الإدارة الأميركية الجديدة التي يريدها أن تسير على الطريق الذي سارت عليه الإدارة التي سبقتها، والتي لا يُعرف لماذا تركت الروس يستبيحون هذا البلد استباحة كاملة، حتى قال الرئيس الروسي قبل أيام إنه سيقيم قواعد عسكرية جديدة لقواته على الأراضي السورية. ويقيناً لا يمكن تصديق أن تعاطي الإدارة الأميركية مع الأزمة السورية قد تم بالطريقة التي تعاطت بها مع هذه الأزمة، حيث أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، والمؤكد أن هذا ليس مجرد حسابات خاطئة وتقديرات سيئة وغير دقيقة، والدليل هو أن باراك أوباما لم يُخْف إعجابه بإيران، وأنه لم يُخْف أيضاً عدم اكتراثه بكل ما في هذه المنطقة العربية، وأنه بالنسبة لسوريا قد ترك الإيرانيين يسرحون ويمرحون فيها كما يشاءون، وأنه وفوق هذا كله قد دفع الأتراك دفعاً في اتجاه موسكو، وترك لدويلة قطر المصابة بعقدتي العظمة والنقص معاً التلاعب بأمن هذه المنطقة، واحتضان معظم التنظيمات الإرهابية المعروفة، إن لم يكن كلها، من «القاعدة» إلى «النصرة» إلى «جفش» إلى «حزب الله» اللبناني إلى الإخوان المسلمين إلى كل التشكيلات المتطرفة العاملة على الساحة الليبية.
إن الإدارة الأميركية السابقة كانت تعرف وبالتأكيد أن هدف الدور القطري بالنسبة للأزمة السورية هو تدمير المعارضة السورية، ومنعها من أن تتحول إلى قوة فعلية قادرة على إسقاط نظام بشار الأسد، وأن هذا كله كان يتم - ولا يزال - بالتنسيق مع الإيرانيين، مما يعني إمّا أن باراك أوباما لم يكن مكترثاً بهذه المنطقة، أو أنه كان متفقاً مع الروس ومع إيران أيضاً على أن تصل الأمور إلى كل هذا الذي وصلت إليه، وحيث أصبحت روسيا الاتحادية مهيمنة على هذا البلد العربي فعلياً.
إن الغياب السابق للولايات المتحدة عن هذه المنطقة قد أدى إلى فراغ مفزع بادر الروس إلى ملْئه بسهولة. وهكذا، فقد أصبح التحالف الروسي - الإيراني يزداد متانة وبسرعة، يوماً بعد يوم، وكل هذا بينما ينشغل الأميركيون حتى في عهد هذه الإدارة الجديدة بمعركة القضاء على هذا الـ«داعش» الذي لا شك في أن الأكثر استفادة من وجوده، بالإضافة إلى روسيا الاتحادية، هم الإيرانيون، وهم هذا النظام البائس في دمشق، وهم أيضاً بعض الذين يحاولون ركوب أمواج هذه المنطقة من أجل الظهور بحجوم أكثر كثيراً من حجومهم الحقيقية.
يجب ألا تنشغل الولايات المتحدة في عهد هذه الإدارة الجديدة بمواجهة «داعش» وفقط، الذي لا بد من مواجهته والقضاء عليه، فهناك بالإضافة إلى هذا كله أنَّ هذه المنطقة بحاجة إلى إعادة ترتيب أوضاع وبسرعة، فالوضع السوري يجب ألا يترك للروس والإيرانيين ليفعلوا فيه ما يشاءون، وأيضاً فإنه لا بد من القضاء على كل مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية، ثم وفوق هذا كله على إدارة ترمب أن تدرك أنَّ استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية الفلسطينية سيبقى يشكل عاملاً رئيسياً من عوامل عدم استقرار الشرق الأوسط.
إنه على الإدارة الأميركية أن تدرك أن الهدف الرئيسي للرئيس فلاديمير بوتين هو تغيير هذا النظام العالمي الأحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، وأنه عليها أن تدرك أيضاً أن التحالف الروسي - الإيراني جدي وحقيقي، وأن أول مسمار في نعش هذا التحالف هو إخراج الروس والإيرانيين من سوريا، بالمبادرة إلى تموضعات واصطفافات جديدة في هذه المنطقة، وإشغال إيران وروسيا بأوضاعهما الداخلية التي تعاني من مآزق فعلية وأوجاع كثيرة.
وهكذا، وفي النهاية، فإنه لا بد من التذكير بأن الرئيس دونالد ترمب هو أول من أثار مسألة «تمويل» التنظيمات الإرهابية، وأنه كان قد طالب في قمم الرياض الثلاث الأخيرة، مع من طالب، بضرورة وضع حدٍّ لكل ما كانت قد فعلته - ولا تزال تفعله - قطر. والمعروف أنَّ طهران تقف في هذا المجال مع الدوحة في الدائرة نفسها، وأن إطلاق الصواريخ الباليستية التي أطلقها حراس الثورة قبل أيام كان بمثابة التلويح بالقبضة الإيرانية أمام الذين يضغطون في اتجاه ضرورة تجفيف مصادر الإرهابيين المالية، ومن بينهم، لا بل في مقدمتهم، الولايات المتحدة.