غسان شربل 

كانت العقود الثلاثة الماضية غنية وعاصفة تدافعت فيها التطورات على كل الأصعدة. سقط جدار برلين وسقط معه العالم الذي كان يحتمي بالجدار. لجأ الاتحاد السوفياتي إلى التاريخ، وهُزم نموذج، وقامت توازنات دولية جديدة. وعلى الصعيد الإقليمي سقط الجدار العراقي فاستأنفت إيران نهج «تصدير الثورة» وهجومها الكبير. ثم هبَّ «الربيع العربي» وأوقع دولاً عربية عدة في الاضطراب أو الحروب الأهلية، فضلاً عن اجتياحات المقاتلين الجوالين الوافدين من دول قريبة وبعيدة.


ساد شعور أن العالم العربي فاته القطار. وأنه سيقيم على قارعة التاريخ بدول خائفة أو مكتظة باللاجئين أو العاطلين عن العمل. وقال المتشائمون إن العالم العربي عاجز عن اللحاق بالعصر. وإنه محكوم بالبقاء في ثيابه القديمة وأفكاره القديمة في وقت أدى تراكم المعارف ونتائج الأبحاث إلى سلسلة متلاحقة من الثورات العلمية والتكنولوجية. بدا أن المستقبل شأن يعني الآخرين في حين يتقاتل العرب على قراءة محطات التاريخ.
في هذا العالم المتلاطم الأمواج ولد الجيل الذي ينتمي إليه الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز. وكان من الطبيعي أن يتساءل أبناء هذا الجيل عن المستقبل وموقع السعودية فيه.
تغير العالم. لم يعد الانتظار ضمانة للاستقرار. لا بد لحفظ الاستقرار من التغيير. تغيير ذهنيات وتغيير أساليب. لكي تكون حاضراً يجب أن تكون قوياً. ولكي تكون قوياً يجب أن تتكئ على اقتصاد دينامي قادر على التكيف. ولم تعد العلاجات المتفرقة تكفي. لا بدّ من رؤية شاملة تتحول خطة ملموسة. ولا بدّ من جعل التغيير ورشة مفتوحة تجتذب المجتمع بأسره لأنه معني بنجاحها وثمارها. ولا بدّ للرؤية من خطط وبرامج ومراحل وتقويم ومحاسبة. ولا بد قبل ذلك من طي صفحة اليأس والإحباط والخوف والتردد وإعادة فتح النوافذ وإعادة إطلاق الأمل.
وإعادة إطلاق الأمل ليست مهمة سهلة. إنها تحتاج إلى رجل يعرف مجتمعه بثوابته وهواجسه وتطلباته. رجل يجيد الاستماع إلى نبض الناس ومشاعرهم العميقة. رجل يجيد أيضاً التحدث إلى ضمائر مواطنيه وانشغالهم بمستقبل وطنهم وأولادهم وأحفادهم. رجل يملك القدرة على المصارحة والإقناع واستقطاب الطاقات. رجل يؤتمن على الثوابت ويؤتمن على التغيير. رجل قادر على اتخاذ القرار وترجمته.
تحتاج عملية إطلاق الأمل أيضاً إلى رجل يعرف العالم. وأوراق القوة فيه. ومحركات العلاقات الدولية. وأهمية الثقل الاقتصادي. والدور الحاسم للتكنولوجيا في صناعة المستقبل. وأهمية الشراكات والاستثمارات. رجل يعزز الثقة في الداخل والخارج. لدى المواطن العادي ولدى أصحاب القرار في الدول الكبرى وأصحاب الرؤى في الشركات العملاقة.
التقت هذه المواصفات في رجل. والتقت فيه الشرعيات. شرعية وافدة من المؤسس وبيت الحكم. صقلتها سنوات الإقامة في ظل الملك سلمان بن عبد العزيز. شرعية التمسك بالثوابت والأصول. وشرعية الرحابة في مشاركة المواطن همومه والسهر على مصالحه. وشرعية شعبية وفرها عثور الجيل الجديد على من يشاركه أحلامه وآماله.
مع محمد بن سلمان انتقل الحديث إلى المستقبل. صارت «رؤية 2030» مطروحة في يوميات المواطن. واللافت هو استناد الأحلام إلى الأرقام. والثقة بقدرة الجيل السعودي الشاب على إحداث النهضة المطلوبة. والانضواء في مؤسسات عصرية. والانشغال بهموم التنمية والمعرفة والتقدم والابتعاد عن جاذبية التطرف الحاضنة للإرهاب.
سقطت نظريات الانغلاق والخوف. وسقطت مشاريع الاصطدام بالعالم. تبلورت ملامح دولة واثقة تبحث عن مكانها ومصالحها وتخاطب العالم بلغة الساعة ومن داخل قاموس التقدم. دولة تبحث عن شراكات ناجعة ومصالح متبادلة وتعتبر مراكمة المعارف والخبرات ثروة لا تبقي البلاد أسيرة لأسعار النفط.
الصحافيون الذين جالوا في عواصم العالم في العامين الماضيين لمسوا تغييراً في علاقات الدول بالسعودية. صار الحديث عن «رؤية 2030» حاضراً في كل اللقاءات. يصدق هذا في واشنطن وبكين وطوكيو وموسكو وغيرها. ارتدت المفاوضات مع هذه الدول طابعاً بالغ الجدية والدقة. يعرف المفاوض السعودي بدقة ماذا يريد ويعرف بالدقة نفسها ما يستطيع تقديمه.
كان على السعودية أن تطلق هذه الورشة الكبرى من دون أن تنسى أنها تقيم في إقليم مشتعل. وأنها مستهدفة لكونها صمام أمان خليجياً وعربياً وإسلامياً. وكان على السعودية التي تدرك أهمية تحديث اقتصادها في زيادة مناعتها، أن تطوّر أيضاً عناصر قوتها على الصعد الدبلوماسية والعسكرية والأمنية. وفي هذا السياق لعب الأمير محمد بن سلمان دوراً كبيراً في مواجهة التحديات واستجماع القدرات وهندسة التحالفات وتعزيز سياسة بناء الجسور كما تجلت في القمم الثلاث المتعاقبة التي شهدتها الرياض.
مع مبايعة السعوديين الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد والأوامر الملكية التي حملت إلى مراكز المسؤولية جيلاً شاباً، تبدأ مرحلة جديدة من مسيرة فتح النوافذ وتمتين الجسور. ثقة الناس تعزز القدرة على القرار وتحرس الاستقرار وتفتح طريق الازدهار.