جمال سند السويدي 

«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، هكذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مقرِّراً، بلا لبس أو التباس، أن الناس أحرار في اختيار عقائدهم وأفكارهم وطرائق حياتهم، وليس من حق أي أحد، تحت أيِّ ستار أو شعار، أن يُكرههم على شيء، أو يوزع عليهم صكوك الكفر والإيمان، ومفاتيح الجنة والنار، لأن الله، خالقهم، هو الذي يحكم بينهم يوم القيامة، لكنَّ جماعات العنف والتطرف والإرهاب والقتل تصر على أن تنصِّب نفسها حَكَماً على البشر من دون الله، تفرض عليهم دينهم ومعتقدهم، وتقرِّر لهم كيف يفكرون ويمارسون حياتهم، وإلا فإنهم، في عرفها المبتور، ومنطقها، أو قل لا منطقها، كفرة أو مشركون يستحقون القتل والحرق والصلب والسبي والاغتصاب، أو على أقل تقدير الطرد والتشريد.

السبب الأساسي

إن للإرهاب سبباً أساسياً، بل إنني أعدُّه سبباً وحيداً، وكل ما عداه تفاصيل ونتائج وتجليات، وهو الفكر الديني المنحرف، الذي يقوم على تكفير المخالفين واستحلال دمائهم، وتتبنَّاه بعض الجماعات وتقدمه إلى العامة بوصفه هو الدين، وما هو بدين، وأنه هو الإسلام وما هو بإسلام، ولذلك فإن الخطوة الأولى والحاسمة في مواجهة آفة أو طاعون العصر: الإرهاب هي الاعتراف بأن «الفكر» قبل أي شيء آخر هو سبب هذا الإرهاب، ومن ثمَّ فإن محاصرة هذا الفكر، وملاحقة مروِّجيه ومموليه قبل معتنقيه وممارسيه، هما الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه العالم إذا كان جاداً فعلاً في القضاء على الإرهاب، وتجفيف منابعه الفكرية والمالية والإعلامية وغيرها. ولحسن الحظ أن العالم قد بدأ ينتبه بالفعل إلى هذه الحقيقة أخيراً بعد أن أضاع سنوات في جدال عقيم حول أسباب الإرهاب ومصادره، وهل هي سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية؟ وما نقطة البداية الصحيحة في التصدي له؟ وقع العالم خلال هذه السنوات ضحية خديعة كبرى من قبل قوى الإرهاب وداعميها، الذين حاولوا حرف تركيز المجتمع الدولي إلى أشياء وأمور أخرى بدلاً من الاهتمام بالجذر الأساسي للإرهاب، وهو الفكر الديني المتطرِّف والمنحرف، فمن دون هذا الفكر المنحرف والمخادع لم يكن ممكناً لشباب في عمر الأمل والطموح تفجير أنفسهم طمعاً في الجنة! ولم يكن لهذه الأعداد الكبيرة من الشباب، المنتمي إلى حضارة القرن الحادي والعشرين، الانضمام إلى تنظيم ينتمي إلى عصور الظلام والتوحش مثل تنظيم داعش. ودون هذا الفكر المنحرف، كذلك، لم يكن ليتم تفجير أماكن عبادة أصحاب الأديان الأخرى، واستحلال دمائهم وأموالهم، بل أعراضهم، باسم «الجهاد»، وقتل الناس على الهوية الدينية أو الطائفية، واعتبار ذلك تقرُّباً إلى الله وخدمة لدينه! ولم يكن ليتم تفجير المساجد، وقتل الناس في صلواتهم، لمجرد أنهم ينتمون إلى مذهب أو طائفة مختلفة، وغير ذلك الكثير والكثير من الانحرافات التي لولا الفكر الديني المتطرف لما رأيناها في مجتمعاتنا أو مجتمعات غيرنا، ولما تلوثت صفحة ديننا السمح، وتشوَّهت صورته وصورة أتباعه في العالمين.

«صندوق شرور»

إن الإرهاب، دون مبالغة أو تجاوز للحقيقة، هو «صندوق شرور» هذا العصر، لأن أخطاره لا تتوقف عند قتل الأبرياء الذين حرَّم الله قتلهم إلا بالحق، أو تدمير الممتلكات، وإشاعة الخراب والدمار في العالم، وإنما تمتد إلى كل شيء على وجه الأرض تقريباً، بدءاً من البيئة، ومروراً بالاقتصاد والسياسة والأمن، وانتهاءً بالثقافة ومنظومة القيم. وإذا أردنا الحديث عن هذه الأخطار، فإننا في حاجة إلى آلاف الصفحات، لكن مساحة هذا المقال لا تتحمَّل الكثير من التفاصيل، ولذلك سوف أكتفي بالإشارة إلى بعض الأرقام والحقائق، وتقديم بعض الإضاءات التي تلخِّص الآثار المدمرة لطاعون العصر: الإرهاب، حيث تشير الإحصائيات حول عدد ضحايا العمليات الإرهابية في العالم إلى أن عدد القتلى في عام 2014 وصل إلى 32685 قتيلاً، إضافة إلى 34785 جريحاً، وفي عام 2015 وصل عدد ضحايا الإرهاب إلى 28328 قتيلاً، والجرحى إلى 35320 جريحاً، وفي عام 2016 وصل عدد القتلى إلى 15505، في حين وصل عدد الجرحى إلى 17529، وفي عام 2017 وصل عدد القتلى حتى شهر أبريل الماضي إلى 2059، وعدد الجرحى إلى 3209. وهذا يعني أن عدد ضحايا العمليات الإرهابية خلال الفترة من عام 2014 إلى أبريل 2017 يصل إلى 78577 قتيلاً و90843 جريحاً. كما وصل عدد النازحين والمشردين بسبب العمليات الإرهابية حول العالم خلال هذه الفترة (2014- أبريل 2017) إلى ما يزيد على 20 مليون شخص. وهذا، بلا شكٍّ، يكشف التهديد الخطِر الذي يمثله الإرهاب لحياة الناس، كل الناس، على ظهر الأرض، بغض النظر عن عقيدتهم أو مذهبهم أو جنسيتهم.

نحو مزيد من الحوار

ووفقاً لـ«مؤشر الإرهاب العالمي 2016» الصادر عن «معهد الاقتصاد والسلام الأميركي»، فإن الاقتصاد العالمي قد تكبَّد خسائر وصلت إلى 89.6 مليار دولار بسبب الإرهاب في عام واحد فقط هو عام 2015. ولا يتوقف الأمر عند إزهاق الأرواح وتخريب الاقتصاد، وإنما يمتد إلى تخريب التعايش بين البشر، ودفع أصحاب الثقافات والحضارات والأديان والطوائف إلى المواجهة والصراع، لأن دعاة التطرف والإرهاب لا يرون العلاقة مع الآخر إلا من منظور صراعي ومعركة صفرية لا مكان فيها للتعاون، أو التعايش، أو الاعتماد المتبادل في عصر العولمة والفضاءات المفتوحة. وقد أشرت إلى ذلك بمناسبة زيارتي للفاتيكان، ولقائي قداسة البابا، في 12 أبريل 2017، عندما قلت إن هناك من يريد أن يعيد التاريخ إلى عصر الحروب الصليبية الدامية بين المسلمين والمسيحيين، ويجب ألا نقف مكتوفي الأيدي أمام هؤلاء، وإن الردَّ الحقيقي على من يريدون وضع أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة في مواجهة بعضهم بعضاً هو المزيد من الحوار فيما بينهم.

عدو يتحور باستمرار

إن الإرهاب، إضافةً إلى كل ما سبق، يمثل خلال المرحلة الحالية من تاريخ العالم أكبر تهديد للسلام والاستقرار العالميَّين، فهو يستهدف دول العالم كلها دون استثناء، ولا يمكن لأي دولة، مهما كانت إمكانياتها وقدراتها، أن تكون في مأمن من أخطاره، كما لا يمكن توقُّع أين سيضرب ومتى وكيف، لأن الأمر يتعلق بعدو يتحور باستمرار، ويبدِّل جلده، ويغير أساليبه وأدواته دون توقف.

والخطِير في الأمر أن بعض جماعات التطرف والإرهاب لديها قدرة كبيرة على الخداع والتلوُّن وتقديم نفسها بأقنعة مختلفة إلى الشعوب والحكومات، وبعضها يجيد فنون التقية والمراوغة واللعب على خرافة «الاعتدال» و«التشدد»، والأخطر أنها تجد مَن يصدقها، ويدافع عنها، أو يقدم إليها الدعمَين المالي والإعلامي، ويوفر لممارساتها الغطاء الأخلاقي. وهناك من يدعم جماعات الإرهاب، ويمولها ويدافع عنها، لأنه يستخدمها لتحقيق أهداف سياسية، لكنه لا يدرك أن هذه الجماعات لا صديق لها، وحتى إذا أقامت صداقات، فإن صداقاتها مؤقتة، وسوف تتخلى عنها عند أول فرصة سانحة، لأنها تنظر إلى الجميع بوصفهم أعداء لا بدَّ من التخلص منهم، وإخضاعهم لمشروعها حينما تحين الفرصة وتتهيأ الظروف.

مخاطر التهوين

وثمَّة مقولة تتردد كثيراً عند وقوع أي عمل إرهابي، أو عند أي محاولة لوضع إطار علمي لفهم الظاهرة الإرهابية، وهي: إن الإرهاب ليس مقتصراً على المسلمين فقط، وإنما هو موجود في كل الثقافات والحضارات عبر التاريخ، فلماذا يتم الضغط على المسلمين وحدهم، وتحميلهم المسؤولية، وتوجيه الاتهامات إليهم؟ وهذه مقولة صحيحة لا شك في ذلك أو جدال، فالإرهاب لا دين له، ولا يمكن تحميل دين أو عرق أو منطقة جغرافية وزر ممارساته، لكني أشعر أن المرمى من وراء هذه المقولة في بعض الأحيان هو التهوين من خطورة الظاهرة، والتهرُّب من المسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين، دون غيرهم، في هذا العصر لمواجهة الفكر الديني المتطرف، ومراجعة التراث، وتنقيحه ممَّا لحق به من أفكار وانحرافات تشجِّع على العنف والدم، وترفض الآخر، وتدمر التعايش بين الناس. نعم، العنف له تجلياته وجذوره في كل العصور والثقافات، ولدى الكثير من الشعوب والمجتمعات، لكن علينا أن نعترف بأن الذين يمارسون الإرهاب في المرحلة التاريخية الحالية ينتسبون إلى المسلمين، وليس غيرهم، ويرفعون شعارات الدين الإسلامي، وليس غيره، ولذلك فإن المسؤولية الأولى في مواجهة هذه الآفة تقع على كاهل المسلمين، والخطوة الأولى في تحمُّل هذه المسؤولية هي مواجهة الذات بصدق وواقعية بعيداً عن العاطفة أو الشعارات الفارغة.

الهدف الحقيقي للإصلاح الديني

إن الهدف من الإصلاح الديني الذي نريده ليس الإساءة إلى الدين، أو تغيير أحكامه، كما يدَّعي بعض البلهاء والمزايدين وأصحاب المشروعات المشبوهة، وإنما هو أكبر خدمة للدين لأنه يجلي حقيقته الساطعة النقية ممَّا لحق بها من أدران فقهية فاسدة بعيدة عن جوهره ومقاصد نصوصه وشرائعه.

لا مجال للتأخر

وحينما يتصدى المسلمون للفكر الإرهابي، ويتصدون للفتاوى الخاطئة، ويواجهون بشجاعة ما في تراثهم الفقهي، وليس دينهم السمح، ممَّا يشجع على هذا الفكر المنحرف، فإنهم لا يدافعون عن أرواح غيرهم وممتلكاتهم، أو السلام والأمن والاستقرار في العالم فحسب، وإنما يدافعون عن أنفسهم في المقام الأول، لأنهم هم أكثر ضحايا الإرهاب حول العالم، وهذا ما تؤكده الإحصائيات التي تقول إن 82% من ضحايا العمليات الإرهابية خلال الفترة من عام 2007 إلى عام 2011 من المسلمين، و18% فقط من غير المسلمين، كما تؤكد مظاهر الكراهية للمسلمين «الإسلاموفوبيا» التي تنتشر بشكل متسارع على الساحة العالمية.

موقف دولي موحد

لقد حان الوقت لموقف دولي موحَّد وفاعل وجادٍّ ضد الإرهاب، بلا مواربة أو مجاملة أو مراوغة، يقوم على وضع تعريف محدد له يتفق عليه الجميع، ويعملون وفقاً له، وعدّه خطراً عالمياً يهدد السلام والأمن العالميَّين، ومن ثم يصبح بنداً أساسياً من البنود المطروحة على أجندة مجلس الأمن الدولي، المعنيِّ بالحفاظ على السلم والأمن في العالم، ومغادرة النهج الذي ساد لسنوات في الحرب على الإرهاب، وكان يقوم على التصدي للممارسات الإرهابية، في حين أن الأخطر والأولى بالمواجهة والحرب هو الفكر الذي تستند إليه هذه الممارسات، والتمويل الذي يغذِّيها، والقوى التي تبرر للإرهابيين أفعالهم، وتحاول أن تفتح لهم مجالاً للنفاذ إلى المجتمعات تحت ستائر زائفة. لقد حان الوقت لكي تعرف دول العالم كلها أن أي تأخير أو تردُّد في مواجهة خطر الإرهاب يعني أن العالم سوف يدفع ثمنه من أمنه واستقراره ومكتسبات شعوبه، وأن تقديم أي دعم للإرهاب، سواء بالمال أو السلاح أو التبرير أو الدعم الإعلامي، يضع صاحبه، سواء كان دولة أو فرداً أو مؤسسة أو حزباً أو جماعة، تحت طائلة المساءلة والملاحقة العالمية. ولم يعد هناك مجال للتهاون أو التأجيل بينما يُقتل الناس يومياً في كل مكان، وبعد أن أصبح الإرهاب شبحاً يطاردهم في الشوارع والمدارس والأسواق وأماكن العمل والعبادة، ومعول هدم للحضارة الإنسانية، ومصدراً للصراع والاقتتال والكراهية بين البشر.