محمد خروب

وحده الدبلوماسي الأردني المخضرم عبدالإله الخطيب، مَن ادرك مبكراً، بما هو أول مبعوث أُممي لدى ليبيا، أنه يُمسِك بكرة من نار, وأن «الأزمة» الليبية مرشحة لمزيد من التصعيد والمواجهات المسلحة، بعد أن قررت عواصم دولية واقليمية, خوض الصراع على ليبيا (ومنطقة شمال افريقيا العربية) بأدوات ودماء ليبية, وبخاصة بعد ان حقّق الاطالسة وبعض العرب «حلمهم», باسقاط جماهيرية الاخ العقيد وتدفيعه ثمن «مروقه» السياسي وتصفية الحساب معه، كي يكون عِبرة لكل من يُحاوِل الخروج على طاعة كبار العرب ومزاحمتِهم النفوذ، المكانة والدور,وكان لهم – من أسف – ما ارادوا, رغم ان عهد الاخ قائد ثورة الفاتح من سبتمبر لم يكن وردياً، ولم يستطيع جذب التعاطف الجماهيري معه,سواء داخل ليبيا ام خارجها،لكن وقياسا على المقولة التي تربط «الأمور بخواتيمها»,فان الليبيين ومعظم الجمهور العربي,بات على قناعة ان الثمن الفادح الذي دفعته ليبيا وشعبها – وما يزالان – والفوضى التي تضرب كل بقعة في الهضبة الافريقية (احد أسماء ليبيا)،لم يكن يساوي إسقاط «نظام» القذافي وإشعال «ثورة»,ثبت للكثيرين انها أُعدَّت في الغرف السوداء,وجيء برموزها «الليبيين»من حملة الجنسيات المزوّدجة,كي يقودوها وفق رطانة استعمارية تنهض على شعارات مُزيّفة,تتحدث عن الديمقراطية والحرية والانتخابات وتداول السلطة,فاذا بها مجرد أُحبولَة للقبض على ليبيا ونهب بترولها (الحلو)ثم ترك الليبيين (كما هي حال اليمنيين والسوريين والعراقيين)...لمصيرهم,الذي لم يعُد يثير اهتماماً في باريس ولندن،بما هما كانتا في مقدمة الغزاة,ولاحقاً الأطالسة والولايات المتحدة,التي اخترع رئيسها المُنصرِف شعار «القيادة من الخلف».

ما علينا..

غادر عبدالإله الخطيب منصبه بعد ستة اشهر فقط من تكليفه لهذه المهمة,التي اجمع عليها اعضاء مجلس الامن الدولي في آذار 2011، رافضاً الضغوط الهائلة التي مارسها عليه بان كي مون,والذي عرَض عليه منصباً استشارياً آخر,لكنه آثر الخروج المُبكِّر,قبل ان يبدأ ملوك الحرب وزعماء الميليشيات في ليبيا التصويب عليه و»اغتيال» حياديته ونزاهته,وخصوصاً تجاه بلد عربي,ادرك بقرون استشعاره الدبلوماسية وخبرته الواسعة,انه منذور للفوضى والخراب والصوملة.

منذ ايلول 2011 الذي غادر فيه الخطيب منصبه حتى الآن،ازدحمت الأجواء الليبية بالمبعوثين الخاصين ليصل عددهم الى «ستة»,بعد تكليف وزير الثقافة اللبناني الأسبق الذي يعمل استاذا للعلاقات الدولية وحلّ الازمات في معهد العلوم السياسية في باريس..غسان سلامة،وخصوصاً بعد ان «اجبرت» تعقيدات الازمة الليبية والتدخلات الدولية والإقليمية الاربعة الذين سبقوه (باستثناء الخطيب بالطبع)وهم البريطاني ايان مارتن،واللبناني وزير الثقافة الاسبق طارق متري,والاسباني برناردينو ليون(مهندس اتفاق الصخيرات)وآخرهم الألماني الذي سيخلفه سلامة... مارتن كوبلر،مع ابداء الزهد في منصب كهذا,سوى بسرعة الاستقالة،او بعدم الإلحاح والتمسّك بمنصبه بعد انتهاء ولايته (وهي قصيرة على اي حال,حيث ان اطولهم مدّة لم يمكث في مهمته اكثر من عامين وهو اللبناني طارق متري,الذي لم ينجز الكثير،بقدر السخاء الذي أغدقه على وسائل الاعلام,للإدلاء بتصريحات او اجراء مقابلات متلفزة مطوّلة،يتحدث عن «فلسفته وثقافته»اكثر مما يضيء على مكامن الازمة الليبية او يمتلك الشجاعة (المحمولة على حياد,كما تفرِض مهمته)والتأشير ولو تلميحا الى مسؤولية المتدخّلين في الازمة,والذين يقفون خلف استمرارها،سواء بمواصلة تمويل الميليشيات,او إسباغ الحماية السياسية والدبلوماسية عليها,ودائماً في تعطيل المساعي الدولية والاقليمية,الرامية الى جمع «الزعامات» التي تكاثرت كالفطر في الفضاء الليبي.عسكريون سابقون وزعماء قبائل وعشائر ورهط من الجماعات التكفيرية التي ساهمت في الحرب الافغانية، واخرى سلفية افسحت المجال لداعش كي يخوض في دماء الليبيين،وغيرهم من السياسيين الذين ما زالوا يحلمون بالبقاء في دائرة الضوء،في انتظار أن تطلبهم إحدى العواصم الاوروبية التي راهنت عليهم سابقاً,ولم تبذل الكثير لحمايتهم او ضمان جزء من كعكة السلطة المسمومة لهم،وها هم يعيشون الآن كلاجئين سياسيين هاربين في عواصم عربية واوروبية,في انتظار ان يلفتوا الانتباه او يستعيدوا بعض البريق وبخاصة بعد ان برز نجم اللواء (معذرة المشير) خليفة حفتر,وبدأت الأضواء بِالسطوع حول نجل القذافي سيف الإسلام,الذي يطمح (هو او مَن يحن إلى زمن الجماهيرية)بمنحه دوراً في ليبيا،سواء استمرت الفوضى تضرب فيها,ام تمّ التوصل الى توافق لتطبيق أو تعديل اتفاق الصخيرات,او تم «اختراع» اتفاق آخر.

من القسوة بمكان تحميل مهمة غسان سلامة الصعبة والمعقدة اكثر مما تحتمل،فالرجل حتى وان اقر كثيرون بقدراته وثقافته وسِعة اطلاعه وخبرته في الازمات (عضو في مجموعة الازمات الدولية)وكان مرشحا جديا لرئاسة منظمة اليونسكو،لكن حكومة بلده (لبنان) خذلَته بتبني مرشحة مغمورة,فضلاً عن لعبه دورا مهما في صياغة «مجلس الحكم الانتقالي»في العراق,بعد الغزو الاميركي,من خلال عمله كـ»مستشار سياسي» لبعثة الامم المتحدة هناك عام 2003.

في السطر الأخير.. قد لا يتعرض المبعوث الجديد لنيران ومواقف قاسية كما تعرض لها سابقوه, حيث اتهامات بالانحياز (كوبلر) وآخر قيل انه «قبض»ثمن انحيازه لأحد الاطراف عبر تعيينه مديرا لمعهد دبلوماسي في احدى الدول الخليجية (برناردينو),وثالث لم يكن على قدر المهمة التي اوكلت اليه(متري)، إلاّ أنه وفي ضوء النتائج «الصِفّرية» لنصف دزينة من المبعوثين، فان المرء يتعاطف حدود الاشفاق على غسان سلامة,وربما يكون الفلسطيني سلام فياض «محظوظاً» عندما اعترضت واشنطن على تعيينه, لانه»المنصِب» لم يكن ليضيف الى رصيده (..)الكثير, من وراء مهمة شبه مستحيلة, إن لم نقل انتحارية،اللهّم إلاّ في كون «جنسيته» تُلقي «بعض» الضوء على القضية الفلسطينية, والمُعارَضة الأميركية حقّقت ذلك... من حيث لا تريد.