عبدالوهاب بدرخان

قدّم الرئيس الروسي سياسته الدولية بأنها «تصحيح» للنظام العالمي الذي تفرّدت الولايات المتحدة في الهيمنة عليه ووضع قواعـــــده. وإذ انطلق فلاديمير بوتين من تداعيات الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، ومن الفوضى التي عمّت ليبيا جرّاء التدخل الأطلسي لإسقاط النظام السابق، فإنه يعتقد أن إدارته الأزمتين السورية والأوكرانية في الأعوام الثلاثة الأخيرة وفّرت نموذجاً صائباً لما يمكن أن تكون عليه القيادة «الجديدة» للنظام الدولي بالاستناد الى جرائم الحرب المحرّمة إدانتها. لكن تبدّى الآن أن النموذج البوتيني يكاد يقوم على فكرة وحيدة هي إنكار القطبية الواحدة وإنهاء وضعية الدولة العظمى (الأميركية) الوحيدة، ولتطبيق ذلك أعطى بوتين أولوية لتقليد وحشية أميركا في فيتنام بالأسلوب الروسي في حلب بعد الشيشان، وانتقل التقليد الى مجلس الأمن الذي باتت موسكو تعطّله بتلقائيةٍ عمياء وغالباً ما كانت واشنطن تعطّله أيام الحرب الباردة. وفي السياق، فإن ما التقى ويلتقي عليه القطبان هو تهميش العدالة الدولية وتمرير جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإذا تبادلا الاتهامات التشهيرية في شأنها فإن «الفيتو» يحول دون إصدار قرارات ودون التزامها وتفعيلها إذا أمكن إصدارها.

يبدو هاجس «التصحيح» بارزاً أيضاً في الكثير من الكلام والقليل من الفعل في نهج الرئيس الأميركي الذي قد يفقد منصبه وهو لا يزال يُوصف بـ «الجديد». فما أقدم عليه مع أعوانه، قبل الحملة الانتخابية وخلالها وبعدها وقبيل أيام من تنصيبه، يشكّل حالياً الخلفية المزعزعة للسياسات أو الاستراتيجيات التي تحاول إدارته بلورتها. ويبدأ «التصحيح» في عُرف دونالد ترامب بمراجعة الفواتير الأميركية حول العالم، وفقاً لقاعدة أن مَن يريد حماية الولايات المتحدة ينبغي أن يتحمّل الكلفة، لكن طبعاً باستثناء إسرائيل. وهذا حساب مخاتلٌ لأن أميركا لم تكن خاسرةً أبداً من تدخّلاتها، وحساب خاطئٌ لأن لأزماتها الاقتصادية أسباباً في السياسات الداخلية أولاً وأخيراً، وهو حسابٌ غير واقعي يرمي الى إبقاء الهيمنة الأميركية لكن مجانية، ثم أنه يُسقط بل يرفض تقويم المحصلة نسبةً الى الكلفة، فنادراً ما يكون التدخّل والحماية نهايةً لأزمة بل بداية لمسلسل يديم الاضطراب والتوتر. كانت لدى باراك اوباما أجندة «تصحيحية» أيضاً، ولم يتمكّن من تطبيقها فاكتفى بتركة تكرّس الانسداد الدولي والتقاء القطبين على الاستثمار، كالعادة، في الأزمات الإقليمية وإدارة الحروب بالوكالة.

بمعزل عن السياسات، كان هناك دائماً ما يُسمّى «الحلم الأميركي» الذي لم يعد له السحر الإلهامي نفسه، لكن يبقى لدى أميركا دائماً نموذجٌ محمّل قيماً قابلة للتصدير بشرط أن تتوافر إرادة سياسية لتطبيقه، أما اذا غابت القيم والإرادة معاً تكون النتــائج كــارثــية، كما هي حالياً.

والأمثلة كثيرة، لكن تكــــفي الإشارة الى غزوات جورج بوش الابن في إطار الحرب على الإرهاب وما أفضت اليه في العراق وأفغانستان، الى انسحابات اوباما وعدم اعترافه بأخطار سياسة التخريب الإيرانية وانخراطاته الملتوية في التعاطي مــع الأزمات السورية والعراقية والليبية التي أدّت الى ولادة الارهاب «الداعشـــي» الجديد، وأخيراً الى تخبّطات ترامب بين ما يتصوّره وما يحقّقه في شأن إيران وصولاً الى وقوعه في فخّ التواصل مع روسيا كما لو أنه يحتاج الى مَن يلفته الى أن روسيا عدوٌ وليست حليفاً استراتيجياً لأميركا.

في المقابل، لم تكن روسيا يوماً مصدراً لـ «حلم» أو نموذجاً قابلاً للتصدير، وإذا كانت لا تدّعي ذلك فليس في الأمر فضيلة. فحتى النموذج السوفياتي، وهو مقياس بوتين ومرجعيته، استخدمته موسكو لاستقطاب عشرات الدول قرابة قرن من الزمن، إلا أنه انتهى الى سقوط مريع وسقطت معه «اشتراكيته» وأي قيم اقتصادية فيها قد تكون صالحة للاتّباع من دون حمولتها السلطوية الفظّة. لا شك في أن التقليد الروسي قد يتفوّق على الأصل الأميركي في الوحشية أو يتساوى معه، لكن المؤكّد أنه لا يستطيع أن يقدّم منظومة متكاملة يمكن أن تضاهيه. ففي سورية، أثبت التدخّل الروسي أن «نموذجه» هو نظام بشار الأسد الذي يوقّع له على ما يشاء، وأثبت أيضاً أن حليفه الأمثل هو النظام الإيراني. نفذ الروس خطة الأسد والإيرانيين لتفتيت قوة المعارضة وتسفيه طموحاتها كأفضل وسيلة للمحافظة على ماكينة اسمها النظام، وإذ حققوا النسبة الكبرى من برنامجهم بالقوة العسكرية إلا أن تحويل إنجازاتهم الى نهاية حرب وبداية استقرار فتلك مهمة لا يتمتّع الرئيس الروسي بالخبرة لإدارتها، لأن قاموسه يعرف الحكّام والجيوش لا الشعوب.

شكا بوتين أخيراً من أن مشاكل ترامب مع المحققين والقضاة تعرقل مساهمة أميركا كشريك في حل النزاعات الدولية، على افتراض أن القطبَين يريدان فعلاً حلّها. يدرك الرئيس الروسي أن كل ما فعله في سورية واوكرانيا وغيرهما مجرد تأزيم لاستدراج الولايات المتحدة الى مساومة لم تبرهن على أنها راغبة فيها.

فهو يتحدّث علناً عن «شراكة» ويترجمها ضمناً «مساومة». لم تعارض أميركا «تنسيقه الاستراتيجي» مع إسرائيل، وأوحت بأنها تطلق يده في سورية سواء بخطة آستانا لـ «مناطق خفض التصعيد» أو بقيادة من الخلف لمفاوضات جنيف، فهي مثله لا تملك نموذجاً مناسباً لإنهاء الصراع السوري بل لإدامته وتوظيفه.

لكن بوتين الباحث عن شراكة مع أميركا وجد أنها تعمل على مشروع آخر في سورية من خلال محاربة «داعش» في الشمال والمنطقة الآمنة في الجنوب، بل وجد أن أميركا وإيران باشرتا صراعاً ميدانياً متجاهلتَين الوجود الروسي، فإيران تبحث أيضاً عن ظروف لاستدراج الأميركيين الى مساومة لا يريدونها.

اضطر الروس أخيراً لقبول هدنة درعا وفرضها على النظام، لأن تفاهمهم مع الأميركيين على عدم التعرّض لقوات النظام اختُرق مع انكشاف أن الخسائر الكبيرة التي نُسبت الى الأخير كانت في معظمها لحلفائه من «حزب الله» وميليشيات أخرى تابعة لإيران، وبالتالي فإن سيطرتهم على كامل درعا تعني السماح بوجود إيراني على حدود الأردن، وهذا غير مقبول أيّاً تكن الاعتبارات. إذاً، أصبح عنوان «قوات النظام» إشكالية روسية يصعب الدفاع عن مشروعيتها، ولا يمكن موسكو إقناع واشنطن بعدم التعرّض للإيرانيين وأتباعهم لأن النظام هو مَن دعاهم. أما الإشكالية الأخرى فتتعلق بالحدود سواء في الشمال أو الجنوب الغربيين اذ يخترقها الإيرانيون متحدّين الإنذارات الأميركية. وفي أي حال، يُظهر الإيرانيون أنهم لا ينتظرون أن تدافع موسكو عن وجودهم في سورية، بل يمارسونه ويطوّرونه وفقاً لاستراتيجية ثابتة لا تحسب حساباً لحواجز تضعها الدول الكبرى أمامهم.

في أسوأ الظروف، ولعلها حلّت، سيسعى الإيرانيون الى استفزاز الأميركيين بدفع زوارق الى المياه الاقليمية السعودية وإحدى المنصّات النفطية وإلى صدام مباشر، كما حاولوا بالزحف نحو معبر التنف من الجانبين، بل إلى افتعال أسباب لصدام أميركي - روسي سبق أن راهنوا عليه عندما حضّوا على استخدام السلاح الكيماوي في خان شيخون وجاءهم الجواب عبر الصواريخ الأميركية على مطار الشعيرات.

وتلتقي طهران وموسكو اليوم على ضرورة استغلال حال التخبّط الأميركي، فمن الواضح أن واشنطن لم تحسم خياراتها في المنطقة على رغم إطلاقها معركة الرقّة ضد «داعش» وتهديفها على نفوذ إيران واضطرارها مجدّداً لإرسال قوات الى أفغانستان. ولا شك في أن الصواريخ التي أطلقتها سفينة روسية من المتوسط وتلك التي أطلقتها إيران من أراضيها على مناطق «داعش»، وكذلك إسقاط الأميركيين طائرة للنظام على مقربة من الرقة، لا تريد كسر احتكار التحالف الأميركي والقوات الكردية لمحاربة الارهاب فحسب، بل ترمي الى وضع الأميركيين أمام واقع جديد لا يمكّنهم من حسم المعركة مع «داعش» وما بعدها وفقاً لتصوّرهم، ومن دون إشراك الأطراف الأخرى، أي روسيا وإيران ونظام الأسد.