عادل درويش

تراجعت شعبية رئيسة الوزراء تيريزا ماي، عما كانت عليه قبل شهر واحد. الصعود والهبوط في شعبية الزعماء مألوف في الديمقراطيات الغربية، وتزداد حدة وسرعة التغير في الرأي العام كلما كان المجتمع أكثر نضجاً ديمقراطياً، لأن حرية واستقلال الصحافة تزداد بشكل ممتاز مع النضج الديمقراطي، حيث تغيب مؤسسة مركزية أو سلطة أوتوقراطية قادرة على ترويض الرأي العام، بجانب تعدد وسائل الصحافة المنافسة، مع ظهور صحافة المواطن ووسائل التواصل الاجتماعي.


في بريطانيا حالة خاصة من شبه احتكار للأثير الإذاعي (وفي العقد الأخير في المواقع الصحافية) من واقع الأمر اقتصادياً.
الـ«بي بي سي» ممولة مباشرة من المواطنين عبر رخصة التلفزيون، بميزانية تفوق ميزانيات دول من العالم الثالث. انتشار الـ«بي بي سي» (تعدد الشبكات التلفزيونية ومحطات الراديو على المستويين القومي والمحلي والإنترنت). الشبكة تركز على أخطاء الشخصية السياسية بشكل يؤثر (غالباً سلبياً) على الأفراد فيكون لها رد فعل في الرأي العام.
ويغلب التيار اليساري الليبرالي على خطها التحريري (ليس بقرار متعمد، بل التفكير الجماعي للمحررين ومعدي البرامج، وكأفراد «الغارديان» صحيفتهم المفضلة التي للهيئة فيها بضعة آلاف من الاشتراكات بغيرها لأفلست الغارديان، وهي المرجع المقدس للفكر اليساري)، لكن التأثير متغير.
مراسلو الصحافة المكتوبة يتحركون بحرية ويمكنهم الذوبان بين المشاركين في مؤتمرات يقيسون فيها نبض الشارع بشكل أكثر دقة. أما مراسلو الشبكات التلفزيونية فظاهرون أمام الناس بكاميراتهم، والمراسلات بسحرهن بالماكياج وآخر صيحات الموضة. وهذا يجعل من يقابلونهم أكثر حرصاً واقتصاداً، أو مبالغة في أقوالهم. والتلفزيونيون أيضًا نجوم ونجمات يتعمدون ألا يطغى ضياء الشخصية السياسية على بريق النجومية. وتطفو السلبية أو العداوة الأنثوية التنافسية الغريزية المدفونة في العقل الباطن للسطح عندما تكون الشخصية السياسية امرأة، كحال المسز ماي مع المذيعات.
كانت مقابلة إحدى نجمات «بي بي سي» مع رئيسة الوزراء منذ بضعة أيام نموذجاً للعداوة الأنثوية. اتهامات استفزازية لا أسئلة تحقيقية، لإظهار المسز ماي مسؤولة عن حريق برج غرينفيل السكني. البرج بني في عهد حكومة عمالية، بتكليف الحكومة المحلية وكانت وقتها عمالية. هذه الأمور من اختصاص البلدية المحلية وليس الحكومة المركزية.
زميلتها المحررة السياسية لـ«بي بي سي» نجمة أخرى ساحرة المظهر، إلى جانب مهارتها السياسية وذكائها اللذين لا شك فيهما، لكنها أيضًا تنتمي للنوع الذي يريد أن يظهر للنسويات أن مخالبهن أكثر حدة من مخالب المراسلين الرجال في قطيع التلفزيون.
مجموعة مراسلي التلفزيون يسميها البريطانيون «media pack» أي قطيع التلفزيون. كل مراسل يقلد بقية القطيع في الهجوم على الشخصية السياسية ونشب المخالب فيه.
موقف «بي بي سي» اليوم، خصوصاً في قضية «بريكست»، معادٍ لرئيسة الوزراء ماي ويتعاطف مع خصومها في بروكسل. «بي بي سي» تقود قطيع الذئاب وتتبعه الشبكات المنافسة (بجانب المصالح التجارية والدخل من إعلانات منتجات من أوروبا).
فمراسلو التلفزيون البريطانيون انتقوا عبارة واحدة ينتقد فيها زعماء المفوضية الأوروبية وزعماء ألمانيا والنمسا السيدة ماي بأن الضمانات التي قدمتها لمواطني الاتحاد الأوروبي المقيمين في بريطانيا «لا تكفي»، ولم يسأل أي من المراسلين والمراسلات أي زعيم ماذا كان يقدم للمواطنين البريطانيين في بلاده ضمانات مماثلة للتي تقدمها بريطانيا.
التيار الفكري نفسه في «بي بي سي» أصبح متعاطفاً مع زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربين وكان معادياً له قبل أسبوعين فقط، مما دفع الكتاب الساخرين لمشابهته بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالقول إن السياسي الطموح سيرحب بمعاداة شبكات التلفزيون العملاقة الليبرالية له أثناء الحملة الانتخابية.
التيار الليبرالي اليساري نفسه كان (ولا يزال) معادياً للزعيم العمالي الأسبق، توني بلير، بينما يتعاطف مع من انتقدوه أمس، رئيس الحكومة المحافظة الأسبق السير جون ميجور، لأنه يدعم بقاء بريطانيا تابعة لبروكسل، مما يتقابل مع مزاج أكثرية العاملين في «بي بي سي»، رغم أن ثلاثة أرباعهم، مثل أي موظفي مؤسسة في القطاع العام، يمقتون المحافظين ويفضلون العمال. ففلسفة الآخرين التأميم ودعم القطاع العام.
التناقضات داخل مؤسسة عملاقة كـ«بي بي سي» تحرمها من قيادة الرأي العام، لكن تزيد من فرصتها في ذبذبته وجعل التغيير فيه أكثر سرعة وضراوة ووحشية تجاه الزعيم المنتخب، وهي إحدى سمات الديمقراطية كنظام شامل متكامل.
لا شك أن بداية انهيار شعبية السيدة ماي كانت من صنعها، فقرارها إجراء الانتخابات كان حماقة سياسية كبيرة ورهاناً خسرته. ويظل السؤال مطروحاً عما إذا كانت راهنت على أن المعارضة العمالية كانت ستصوت ضد إجراء الانتخابات، خصوصاً أن شعبية العمال كانت منهارة عشية التصويت..
لكن هذا أسهم في فقدانها 13 مقعداً فقط، ولا تزال صاحبة أكبر عدد من المقاعد. لكن هناك عادة تطوراً أو حادثة واحدة تحول الرأي العام أو بالتحديد الانطباع في الرأي العام وهو حريق البرج السكني غرينفيل.
السيدة ماي قدمت عملياً المساعدة وباشرت عملها بأعصاب ثابتة للتعامل مع فرق الإنقاذ وتوفير الإمكانيات وتوفير ميزانية فورية من الخزانة العامة للمتضررين من الحريق بـ500 جنيه نقداً لكل شخص، وخمسة آلاف جنيه في حسابه البنكي، وتوفير مساكن للجميع في غضون ثلاثة أسابيع، بل وإصدار التعليمات بعدم فحص حالة الإقامة للمتضررين (بعض سكان البرج مهاجرون غير شرعيين أو لهم سجل مخالفات قانونية) وإنما توفير المساعدة المادية والمسكن البديل بلا طرح أي أسئلة.
لكن الصحافة اليسارية تغاضت عن هذه المعلومات، مثلما ظهر في مقابلة نجمة «بي بي سي» مع المسز ماي، وانتقدت الزعيمة المسكينة لأنها لم تظهر أمام الكاميرات تحتضن سكان العمارة المحترقة وتذرف الدموع تعاطفاً معهم، مثلما فعل الزعيم العمالي كوربين في عملية علاقات عامة متقنة ولم يقدم تبرعاً عملياً. وتبعه كثير من النجوم والمشاهير ولم يقدموا سوى توقيع الأوتوغراف للمعجبين والسيلفي على الجوال مع المعجبات.
بريطانيا وقفت وحدها في الحرب العالمية الثانية وهزمت جحافل النازية وقنابل اللفتوافا بالصمود والأعصاب الباردة والابتسام، لا بإظهار الضعف والدموع. الأزمات تحتاج إلى زعامة ثابتة بأعصاب باردة للتعامل مع الصعاب وقيادة الأمة كقدوة للصمود.
لكن كانت هناك نقطة تحول عاطفي في الرأي العام ظهرت في جنازة الراحلة أميرة ويلز دايانا منذ عقدين، أضعفت الشخصية البريطانية وأذابت دعامات الصمود البارد للمجتمع، وهذا موضوع آخر.