خالد بن حمد المالك

يحتفظ التاريخ للمملكة بسجل مشرف في وفائها وتقديرها لكل من أبلى بلاءاً حسناً في خدمة الدولة، سواء كان على رأس العمل، أو تركه لغيره بوفاة أو مرض، أو بسبب سياسة الدولة في التوجه نحو التجديد في الأشخاص والأفكار، بل إن كثيراً ممن تركوا العمل في المملكة أعيدوا لاحقاً إلى مواقع أخرى تلبية لنداء الوطن بعد فترة استراحة أشبه ما تكون باستراحة المحارب.

* *

هذه الخاصية التي تتميز بها المملكة رسخت في أذهان المواطنين تقاليد لا مثيل لها في الدول الأخرى، وجعلت كل من ترك موقعه في مسؤوليات خدمة الوطن، يتركه وعينه على بلاده، فلا يقبل أن تمس بسوء، أو تتعرض لأذى، ولا يسمح لنفسه بأن يقف متفرجاً وسلبياً يشاهد تعرضها للخطر دون موقف وطني مسؤول، وهكذا هم أبناء الوطن من أمراء وعلماء ووزراء ومن كل شرائح المجتمع، مما رسخ الأمن، وعزز اللحمة الوطنية، وحول المملكة إلى دولة شامخة في كل شيء.

* *

وكمثال على هذا، فقد ترك ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف منصبه بعد سنوات من العطاء، وكثير من الإنجازات، وتميز في إدارته للعمل، وعلاقاته الحميمة مع المواطنين، لكنه لم يترك ولاية العهد دون أن يطبع بصمته بصوته وحضوره الشخصي عن هذا النمط السعودي في التعامل الرجولي الذي يحسن تقدير الأمور، وينظر إلى مصلحة الوطن باعتبارها أولويات لديه، ويقبل بما يراه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.

* *

فقد رأينا سموه يبايع أخاه وابن عمه الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، ويدعو له بالتوفيق، ويتبادل معه الابتسامات، والكلام الجميل، وتنقل لنا الصور هذا التعامل الراقي بين السلف والخلف في ولاية العهد، ما جدد الثقة لدينا من جديد بأن هذه البلاد موعودة دائماً بهذه الروح المثالية، ملتزمة بمثل هذا النهج القويم، يؤمن أفراد الأسرة الحاكمة أن حب الوطن والذبَّ عنه، إنما يكون بمثل هذه الطبيعة المعتادة في الفهم والوعي في تحمل المسؤولية.

* *

وحقيقة الأمر، فبالقدر من الارتياح الذي استقبلنا به مبايعة الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، فقد كان وداعنا للأمير محمد بن نايف وداعاً مصاحباً لما تختزنه ذواكرنا ونتذكره لسموه من إنجازات مهمة، وأعمال سديدة، ونجاحات كبيرة، حتى أنه كاد أن يدفع حياته ثمناً لدفاعه عنا، فقد ترصده المهووس بالغدر والخيانة، لكن الله أفشله وجعل كيده في نحره، فتقطع أشلاءً، بينما حمى الله الأمير محمد بن نايف، وأعطاه مزيداً من السنوات لخدمة الوطن والمواطنين.

* *

من بين إنجازات ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف - وهي كثيرة ومهمة - إدارته منذ أن كان مساعداً لوزير الداخلية لملف الإرهاب، وتصديه بشجاعة للإرهابيين، بما في ذلك تقليم أظافرهم، وإنهاء أي نشاط منظم لهم، ما جعل المملكة قدوة للدول الأخرى، يحاكي الآخرون الرياض في تجربتها، ويستفيدون من خبرتها، ويأخذون من الأمير محمد بن نايف أسلوبه ودروسه في التصدي للإرهابيين، وخبرته في قص أجنحة من كانوا يتآمرون على المملكة.

* *

هذه النجاحات المشهودة للأمير محمد بن نايف كان وراءها عمل وتنظيم تميزت به وزارة الداخلية بكل أقسامها وفروعها ومؤسساتها، تنظيم آلي وفني جعل من الوزارة بقيادة محمد بن نايف ذات إمكانات عالية في التعرف على الإرهابيين، وقدرة غير عادية في رصد نشاطهم وحركتهم ومواقعهم، بما ضيق الخناق عليهم، وجعلهم تحت السيطرة، وفي متناول سلاح قوات الأمن، الذين تم تدريبهم وتعليمهم وتزويدهم بأحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً لحماية الوطن من شرور هؤلاء الإرهابيين.

* *

والأمير محمد بن نايف، صاحب سجل مشرف، وسيرة عطرة، فلم يكن جهده في وزارة الداخلية مقتصراً على الجانب الأمني، فقد أعطى للجوازات، والأحوال المدنية، والدفاع المدني، والمرور، وبقية القطاعات الكثيرة من اهتمامه ما جعل العمل فيها سهلاً وآلياً وميسراً، باستخدام أفضل التقنيات، وبتمكن القوى البشرية من إدارة أعمالها بكفاءة عالية، بما أراح المواطنين من عناء المراجعات، والتسويف في إنهاء معاملاتهم، حيث أصبحت الخدمات تقدم لهم في الأوقات المناسبة، وبسهولة ويسر.

* *

والآن، ونحن نودع سموه، بانتقال ولاية العهد إلى الأمير محمد بن سلمان، فنحن بين السلف والخلف، نرى من خلالهما بأعيننا أن بلادنا، مع كل عهد، تتطور، وتتجدد، وتأخذ مسارات أفضل، محتفظة بالوفاء والتقدير لكل من تقلد مسؤولية بالدولة، فهذه المملكة بتاريخها والقواعد التي أسست عليها، والمنهج الذي سارت عليه، لن تنسى من خدمها، لن تنسى محمد بن نايف، وسيكون خلفه في القلب، كما كان سلفه كذلك من قبل ومن بعد.