سالم الكتبي

لا يزال بعضهم في المنطقة يسعى إلى مزيد من الفهم حول أسباب قرار مقاطعة قطر الذي اتخذته نحو 10 دول حتى الآن، وكي يمكن توضيح أبعاد الصورة كاملة، علينا أن نعود قليلاً إلى الخلف، ففي أعقاب انتشار الفوضى في مناطق شتى من العالم العربي منذ ما يعرف إعلامياً بـ»الربيع العربي»، وتعرض الأمن القومي العربي لمصادر خطر طارئة تمثلت في الصراعات الأهلية وتفشي خطر الانقسام والتفتت بين العديد من دوله، والتدخلات الخارجية المستفحلة، ولاسيما من جانب القوى الإقليمية التي تمتلك أجندات توسعية سعت إلى تنفيذها عبر استغلال لحظة التفكك والضعف غير المسبوقة في التاريخ العربي المعاصر، فقد سعت دولة الإمارات إلى لعب دور فرضته الظروف الإقليمية، والدولية، في ظل تردد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وميله إلى عدم الانخراط في أزمات الشرق الأوسط، وما عرف باستراتيجية القيادة من الخلف، كما حدث في ليبيا وغيرها.

ورغم أن العلاقات الإماراتية - القطرية، لم تشهد محطات خلاف سياسي كبرى خلال السنوات والعقود الماضية، فإن مرحلة ما بعد 2011 قد وضعت قطر في جانب، وبقية الدول العربية الساعية إلى الحفاظ على ما تبقى من الأمن القومي العربي في جانب آخر، فقط لعبت قطر دوراً واضحاً في تغذية التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، التي انتهت بإطاحة أنظمة الحكم في دول عربية محورية مثل مصر، وقبلها كان الدور ذاته في تونس ثم ليبيا واليمن وسوريا. ولم تكتف قطر بآلتها الإعلامية، بل انخرطت في دعم مباشر لجماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية، وساندت ودعمت مختلف التنظيمات المحسوبة على التيار المتطرف ضمن جماعات الإسلام السياسي، واحتضنت قادتها وقدمت لهم الأموال والسلاح (ليبيا وسوريا)، وكان هذا الدور الذي لم يغب بعد عن الذاكرة الجمعية للشعوب العربية تأثيراً استراتيجياً هائلاً في إحداث تحولات نوعية في الأمن والاستقرار الإقليمي.

كما ناهضت قطر بشراسة ثورة الشعب المصري في 30 يونيو 2013 ضد حكم جماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية، وبذلت كل ما في وسعها من أجل إفشال مساعي الشعب المصري لاستعادة دولته من قبضة «الجماعة»، كما لعبت الدور ذاته في اليمن، وتعاونت مع تنظيمات معروفة بانتمائها «للقاعدة» في سوريا بزعم دعم ثورة الشعب السوري.

الدور القطري في هذه الأحداث لم يقتصر على الآلة الإعلامية كما يعتقد بعضهم، بل جاء ضمن استراتيجية متكاملة لها جوانب سياسية وتمويلية ودينية وعسكرية، فقط خططت قطر لنشر الفوضى عبر «أكاديمية التغيير»، التي أنشأت فرعا لها في الدوحة عام 2009، وكان يديره الإسلامي الذي كان يقيم في لندن، هشام مرسي، وهو صهر القرضاوي، حيث قامت هذه المؤسسة المشبوهة بتدريب عشرات الشباب من دول عربية شتى بشكل مباشر، وعبر الانترنت، على «التثوير»، وكيفية استغلال مواقع التواصل الاجتماعي في بناء هياكل تنظيمية واستلهام أفكار الثورات الملونة في التعامل مع السلطات والأجهزة الأمنية وغير ذلك.

لم يكن هذا الأمر سبباً وحيداً للخلاف بين دولة الامارات وقطر، رغم تباين وجهات النظر حيال ما تفعله الدوحة ومساسه وتأثيره المدمر للأمن القومي العربي، فالإمارات كانت تدرك منذ البداية أبعاد مشروع «قناة الجزيرة» منذ تأسيسها في عام 1996، ولكنها مضت في طريقها ولم تنزلق إلى مهاترات أو مشاحنات ثنائية، فلم يكن هناك أية خلافات حدودية أو غير ذلك في إطار العلاقات الإماراتية - القطرية منذ تأسيس الدولتين عام 1971، على عكس بعض دول مجلس التعاون الأخرى، التي كان لها سجل في الخلافات مع قطر. والمؤكد أن الخلاف الحالي بين الامارات وقطر لا يتمحور حول مصالح ذاتية أو تنافس إقليمي أو طموحات إماراتية، فالإمارات قد تجاوزت مرحلة التنافس مع قطر منذ سنوات طويلة مضت، بل ينطلق من حرص مؤكد على الأمن والاستقرار الإقليمي أولاً، ثم يرتبط بدور قطر المشبوه في اليمن ثانياً، حيث تدور شكوك حول تورط القوات القطرية المشاركة ضمن التحالف العربي في تسريب «إحداثيات» تسببت في استهداف قوات التحالف العربي في مأرب وعدن بين عامي 2015 و2016، كان نتيجتها استشهاد أكثر من 45 جندياً إماراتياً وآخرين من القوات السعودية والبحرينية على يد ميلشيات الحوثي وصالح، وما يؤكد ذلك أن قطر تمتلك سجلاً مناوئاً لجهود دول مجلس التعاون في اليمن منذ عام 2006، وتتعاون مع الحوثي ولم يذكر لها دور واضح ضمن قوات التحالف، ما يشكك بقوة في طبيعة مشاركتها في اليمن وأهدافها الحقيقية متمثلة في التجسس على العمليات العسكرية، لا المشاركة فيها.