وليد أبي مرشد

يقول مثل شعبي شائع في بريطانيا: «من يتعب من لندن يكون قد تعب من الحياة كلها».
ملايين من سكان لندن، وكثير من زوارها الدوريين، يسلمون بهذه المقولة من دون نقاش على اعتبار لندن عاصمة التسامح في الغرب، ومدينة تفتخر بـ«كوزموبوليتيها» وكونها ملجأً آمناً للأفراد والأقليات المضطهدين في أوطانهم.
في القرن السادس عشر، فتحت العاصمة البريطانية أبوابها لمئات الآلاف من الفرنسيين البروتستانتيين الذين نزحوا من بلادهم بعد مذابح «السان بارتيليمي» التي تعرضوا لها عام 1572، من قبل عصابات كاثوليكية (آنذاك، كانت «الداعشية» ظاهرة مسيحية أيضاً).
وإبان العهدين النازي في ألمانيا، والسوفياتي في روسيا، استقبلت لندن بصدر رحب كل «المنشقين» عن النظامين الشموليين.
حتى الهاربين من جور الحملة «المكارثية» في الولايات المتحدة، في خمسينات القرن الماضي، وجدوا في لندن ملاذاً آمناً لهم، رغم أن بريطانيا كانت الشريك العسكري الأوثق لواشنطن في منظمة حلف شمال الأطلسي.
وخلال «موسم» الانقلابات العسكرية في العالم العربي، القرن الماضي، استضافت لندن أفواج الهاربين من «ظلم ذوي القربى». وفي هذا السياق، لا ينسى اللبنانيون الذين نزحوا من جحيم حربهم الأهلية (1975 - 1990) كيف كانت السلطات البريطانية أحنّ من «أمهم الحنون»، فرنسا، في استقبالهم وتسهيل إقامتهم.
على صعيد آخر، شجع مناخ لندن «الكوزموبوليتي» اعتمادها من قبل كثير من المؤسسات الإعلامية العربية مقراً رئيسياً لنشاطاتها، كما شجع تدفق الاستثمارات الخليجية إليها، بحيث تقدر اليوم بمليارات الجنيهات، وتضم مؤسسات مصرفية ومعالم معروفة بتراثها البريطاني.
مناخ لندن التسامحي حولها إلى مدينة تعددية بامتياز، تتعايش فيها بسلام كل الألوان والأعراق والمذاهب والأديان. وقد يكون أفضل مؤشر على جوّها التسامحي انتخاب أبنائها عمدة مسلماً (صديق خان) لمدينتهم، فيما عدد مسلميها لا يتجاوز المليون من أصل ثمانية ملايين لندني.
وعلى خلفية أجواء التسامح هذه، المقرونة بعلاقات تاريخية بين العالم العربي والمملكة المتحدة، يبدو مستغرباً - إن لم يكن شاذاً - جهل الشارع البريطاني، والمواطن البريطاني العادي، بحقيقة الإسلام ورسالته.
تجاوز هذا التقصير قد يحتاج إلى سنوات من الجهد الفكري والإعلامي الدؤوب. ولكن خطر قضاء النهج التكفيري للإسلام السياسي على ثقافة التسامح العرقي والديني في لندن يتخذ اليوم أهمية خاصة، بعد أن حركت «الإنجازات» الإرهابية العشوائية للداعشيين (لندن ومانشستر) مشاعر «الإسلاموفوبيا» بشكل غير مسبوق، ودفعت شباناً بريطانيين إلى الرد على ممارسات الدهس «الداعشية» بعمليات دهس عشوائية لتجمعات المسلمين قرب جوامعهم.
حتى الآن، لا تزال عمليات الرد هذه «أفرادية»، ومنفذة بمبادرات ذاتية. ولكن الإرهاب، في نهاية المطاف، سيف ذو حديّن، وأي تصعيد محتمل في نشاطات «الداعشيين» الإرهابية في بريطانيا قد يدفع بعض المتطرفين في عدائهم لـ«الإسلام السياسي» إلى تنظيم صفوفهم، وتشكيل عصابات تستهدف المسلمين المقيمين في بريطانيا، وربما مصالحهم أيضاً.
قد يقال إن هذا التطور غير متوقع في بريطانيا، كون ثقافة التطرف بعيدة أصلاً عن طباع البريطانيين، ولكن ذلك لا يعفي المسلمين في بريطانيا - أفراداً وجمعيات - من التحسب لاحتمال كهذا، ومواجهته بمزيد من الانخراط في الحياتين السياسية والاجتماعية للدولة المضيفة، كما لا يعفي الدول الإسلامية والعربية الموصوفة بـ«المعتدلة» من ضرورة توثيق العلاقات الثقافية الثنائية والنشاطات الرياضية المشتركة مع بريطانيا.
قد لا يكون التصعيد الأخير في عمليات «داعش» في مانشستر ولندن بريئاً من محاولة زعزعة الوجود الإسلامي والمصالح العربية، عبر تأليب الشارع البريطاني عليهم.
وعليه، قد يكون شعار المرحلة تأكيد الجاليات العربية والإسلامية حضورها الفاعل في بريطانيا، وتجنب الوقوع في فخ «الداعشية». وإذا صحت المقولة البريطانية: إن من يتعب من لندن... يتعب من الحياة، فقد يكون الأصح منها أيضاً: إن من تتعب منه لندن... يتعب العالم كله منه.