وليد محمود عبدالناصر

انتهت جولتا الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة بفوز عريض لحزب «الجمهورية إلى الأمام» الذي يقوده الرئيس الفرنسي المنتخب أخيراً إيمانويل ماكرون وتحقيقه غالبية مطلقة في البرلمان الفرنسي، بعدما كان هذا الحزب قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها ماكرون مجرد حركة سياسية صغيرة وصاعدة ووسطية التوجه لا يأخذها الكثيرون مأخذ الجد، من جهة أنها يمكن أن تتحول بين عشية وضحاها إلى حزب حاكم في هذه الدولة المهمة والمحورية في الاتحاد الأوروبي والقارة الأوروبية بأسرها والمشهد العالمي ككل.

وبهذا منح الشعب الفرنسي تفويضاً تاريخياً للرئيس ماكرون، يذكرنا بتفويض مماثل وحالة مشابهة حصلت مع الرئيس الفرنسي الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي دارت في العام 1981، وذلك للمضي في تنفيذ السياسات والبرامج التي وعد بها الرئيس المنتخب حديثاً في الداخل والخارج على حد سواء، وبهدف مزدوج يتمثل في السعي إلى استعادة عافية وأمن واستقرار الدولة وتوازن اعتبارات الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتعظيم مشاعر الهوية الوطنية الفرنسية الجامعة التي تحقق تماسك لحمة المجتمع الفرنسي وإحياء حالة الرفاه الحياتي والمعيشي في الداخل من جهة، وكذلك إحياء وتعزيز مكانة فرنسا الخارجية من جهة أخرى، خصوصاً دورها القيادي سواء على صعيد القارة الأوروبية، وفي شكل أكثر تحديداً داخل الاتحاد الأوروبي، أو في سياق التحالف الغربي الأكبر أو على صعيد العلاقات الدولية في شكل عام.

وقد جاءت هذه النتائج في مفارقة على سبيل المثل، ومع الأخذ في الاعتبار الفوارق والتباينات بين الحالتين، مع نتائج الانتخابات التشريعية البريطانية الأخيرة والتي سحبت من حزب المحافظين وزعيمته رئيسة الحكومة تيريزا ماي الغالبية التي كان يحظى بها.

وفي غضون أسابيع قليلة من انتخابه، يمكن القول إنه أصبح لدى الكثير من الأوروبيين، بل الكثير في العالم بأسره، وليس فقط الفرنسيين، بعض الأمل بأن يمثل الرئيس الفرنسي الجديد بمثابة أمل بطريق جديد ومختلف قد يمثل بداية الخلاص أو الإنقاذ سواء بالنسبة لفرنسا، بل لأوروبا، بل وربما على الصعيد العالمي، من الكثير من الهموم والمعضلات التي تراكمت وتضاعفت تعقيداتها في الفترة السابقة على انتخابه. 

ولهذه الآمال والتطلعات العديد من الأسباب والدوافع المشروعة، كما أن لها بعض الأسانيد في الفترة المنقضية منذ انتخابه، ولكن هناك أيضاً، على الجانب الآخر، بعض الشواهد على عدم اكتمال الرؤى التي تبرر الآن هذه النظرة للرئيس الفرنسي والتوقعات المعقودة عليه.

فالرئيس ماكرون ربط مشروعه لمستقبل فرنسا وقوتها وازدهارها، خصوصاً زيادة قدرتها التنافسية على المسرح العالمي اقتصادياً وتجارياً وعلمياً وتكنولوجياً، بقوة بسياقها الأوروبي، بخاصة دورها الريادي داخل الاتحاد الأوروبي، وانتماءها الإنساني العالمي، وذلك عبر المواقف التي تبناها والتصريحات التي أطلقها والسياسات التي أعلن عن عزمه المضي فيها على أكثر من مسار خارجي، وذلك في مفارقة واضحة مع كل من المشروع الذي يطرحه الرئيس الأميركي الجديد «دونالد ترامب» والداعي لاستعادة قوة الولايات المتحدة، من دون الحديث كثيراً عن الشراكة مع بقية العالم بالضرورة في هذا السياق، وكذلك المشروع الخاص برئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي المبني على التفاوض لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

فمنذ حملته الانتخابية، وكذلك بعد فوزه في الانتخابات وتوليه الرئاسة، كان ماكرون قاطعاً في ربطه ازدهار فرنسا ورفاهها بالتحرك في الإطار الأوروبي في الاتجاه نفسه، وذلك إلى الدرجة التي دفعت بعض خصومه لانتقاده باعتباره أعطى مكانة متقدمة للانتماء الأوروبي باتت أحياناً طاغية على الهوية الوطنية الفرنسية ذاتها، وتبلور هذا جليّاً في أول قمة للاتحاد الأوروبي حضرها ماكرون، وأكد فيها ضرورة منح الأولوية في العقود العامة التي تنظمها دول الاتحاد الأوروبي للشركات التي تعمل داخل حدود الدول الأعضاء، في ما رآه البعض ليس فقط استبعاداً للشركات غير الأوروبية، بل وللشركات البريطانية أيضاً بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وذلك بهدف توفير محفز لإنعاش الاقتصاد الأوروبي، بما في ذلك الفرنسي، وإن لم يكن قد تم اعتماد هذا الاقتراح فإنه ترك أصداء إيجابية لدى قطاع الأعمال الأوروبي داخل فرنسا وخارجها. 

كما أنه أكد في القمة ذاتها ضرورة التزام الدول الأعضاء بسياسات الاتحاد في شكل منضبط، منتقداً دول أعضاء بالاتحاد في شرق القارة ووسطها لم تلتزم بقرارات الاتحاد مثلاً في شأن زيادة الأعداد التي يتعين قبول لجوئها إليها، وذلك في أعقاب تدهور الأوضاع في سورية وتضاعف الهاربين من جحيم القتال الجاري هناك، وهو تصريح أثار عليه انتقادات من بعض قادة دول شرق ووسط القارة الأوروبية. 

كذلك دعا الرئيس الفرنسي إلى السيطرة على استثمارات الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي داخل دوله، مثل حالة الاستثمارات الصينية، وهو اقتراح تم إضعافه بدرجة كبيرة من جانب دول أوروبية خرجت للتو من أزمات اقتصادية طاحنة وتسعى بكل الطرق لجذب أي استثمارات خارجية تستطيع جذبها، مثل حالات اليونان وإسبانيا والبرتغال المتعطشة لأي استثمارات أجنبية لتحقيق التعافي الاقتصادي.

وإن كان ما سبق يعتبر لدى الكثير من الفرنسيين والأوروبيين، بل ومن مثقفي ومواطني بلدان أخرى في العالم، علامات إيجابية على إمكان أن يكون الرئيس الفرنسي الجديد يفكر «خارج الصندوق» من أجل إيجاد حلول لهموم ومعضلات فرنسية وأوروبية وعالمية، فإنه على الجانب الآخر، دعا الرئيس الفرنسي في خطوة مثيرة للجدل داخل فرنسا ودولياً، إلى مراجعة قوانين العمل لتخفيف القيود على قطاع الأعمال وتشجيع إنعاش الاقتصاد العالمي والأوروبي والفرنسي، وذلك من جهة تسهيل منح أصحاب الأعمال المرونة اللازمة للتشغيل والتوظيف أو الاستغناء عن العمالة، وهو ما أثار عليه غضب اتحادات العمال الأوروبية والعالمية، وتلك الموجودة داخل فرنسا، ومن ذلك أيضاً دعوته لدفع مرتبات العمالة القادمة من دول شرق ووسط أوروبا التي كانت تنتمي سابقاً للكتلة السوفياتية والموجودة في بلدان أوروبا الغربية حالياً بقيمة أجورها في بلدانها الأصلية، لتجنب تأثير حركة هذه العمالة في زيادة معدلات البطالة في الأخيرة من خلال توفير الفارق بين مرتباتها في بلدانها الأصلية ومستوى المرتبات في أوروبا الغربية لاستخدامه لتوظيف جزء من البطالة الموجودة في بلدان أوروبا الغربية عبر استثمارات ومشاريع جديدة. 

وعرض ذلك الرئيس الفرنسي الجديد لانتقادات من بعض قادة دول شرق ووسط أوروبا، مما دفعه لتبرير اقتراحه بالتحذير من أن أحد أهم أسباب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو هجرة العمالة من دول داخل الاتحاد الأوروبي إليها وتحول العمالة البريطانية للبطالة، مما أثار الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في بريطانيا ضد الاتحاد الأوروبي ودفعها للتصويت لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد. ولم يشفع هذا التبرير للرئيس «ماكرون» من تواصل بعض الانتقادات ضده داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه.

وهكذا نرى أن هناك شواهد تبدو مرجحة لأمل البعض في كون الرئيس الفرنسي يمثل فكراً جديداً فرنسياً وأوروبياً وعالمياً، وأخرى تحد من هذ الأمل وتحجمه، ولكن الثابت هو أن الأمر يحتاج للمزيد من الوقت حتى نتمكن من الحكم بدرجة أفضل على المدى الذي سوف يتمكن به الرئيس «ماكرون» من تلبية التطلعات المعقودة عليه داخل بلاده وخارجها للمساهمة برؤية إبداعبة في تجاوز تحديات جمة ومتراكمة في العديد من المجالات.


* كاتب مصري.