فضيلة الفاروق

ما أسهل أن تنشأ الخلافات السياسية وما أسهل أن تنتهي ويتصافح المتخاصمون، وما أصعب خلافات المثقفين التي تمتد حتى يُوارى المتخاصمون التراب. إذ يصعب على المثقف الملتزم أن يحيد عن خطه ويساير غيره دون قناعات.

عشت حروب روائيين كبار وكنت أستغربها خاصة حين تخرج عن سيطرة الكُتَّابِ أنفسهم وتتحوّل لخلافات شخصية مؤلمة، قد تنتهي وقد لا تنتهي إلاّ وأحدهم على فراش الموت، بل إن أغرب ما يحدث عند رحيل أحد قطبي الخلاف هو حزن الطرف الباقي على قيد الحياة أكثر من غيره على رفيقه اللدود لأنه أصبح وحيدا بدونه وأن ساحة الوغى التي خاضاها معا لم يعد لها معنىً بدونه.

على سبيل الذكر مثلا تابعت حروب أدونيس مع صادق جلال العظم، والجنابي، وبول شاوول وغيرهم، وكنت أتساءل هل يحتاج الشأن الثقافي والسياسي إلى كل تلك الجبهات التي فتحها أدونيس على نفسه، إلى أن أدركت أن المثقف لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة إن لم يكن له عدو قوي يجبره على دخول معركة تبقيه صامدا على ركح المشهد الثقافي. كما أدركت أن المثقفين أصناف فمنهم من يفضل أن يكون بوقا لرجل سياسة يحميه، ومنهم من يسجل موقفه مفضلا أن يكون في الصف الأمامي متبوعا لا تابعا وإن سجن وعذب بسبب مواقفه، وهناك نوع يحب أن يكون تابعا مثله مثل عامة النّاس، وهناك من هو خفيض الصوت، حريص على مصلحته الشخصية ولا يهمه الشأن العام، يكتب بهدوء، ويعيش لصيقا بالجدران، وإن قال رأيه فإنّه يحرص أن يكون ديبلوماسيا من خلاله، لا يثير حفيظة أحد.

في خلافات الكبار سجّل التاريخ حروب ألبير كامو مع جان بول سارتر، التي اندلعت بسبب مواقف سياسية، وانتهت بإبلاغ سارتر رسالة مباشرة لكامو يخبره فيها أن "صداقتهما أصبحت فاسدة، وأنه من الصعب أن يتمما مسيرتهما على الطريق نفسها" فيما بالغ كامو بنشر رسالة موجهة لسارتر عنونها بـ "رسالة إلى مدير العصر الحديث"، بادئا كلامه بعبارة "حضرة المدير" وثمّة لحظة موجعة هنا، أبرزت ألم الصديقين معا لدخول معركة فرضها وضع سياسي، ففي رد سارتر كتب "العزيز كامو" متفاديا ذكر كلمة "صديق" لأن الهوة بينهما ردمت تلك الصداقة، ولكنّه عوضها بـ "العزيز" آملا في بقاء بعض الود بينهما.

عند وفاة كامو في حادث سيارة مفاجئ قال سارتر كلمته الأخيرة فكتب أنّه لم يتوقف يوما بالتفكير فيه، والشعور بعينيه تقرآن الجريدة أو أي كتاب معه، وأنه عاش معه حتى وإن لم يكونا يلتقيان في مساحات ضيقة تجمعهما معا. وانتهى بذلك سجال طويل صنع إيقاعا غير عادي في المشهد الثقافي الفرنسي منتصف القرن الماضي.

صخب الحياة الثقافية يصنعه ذلك الخصام بين المثقفين، وهو خصام منتج ومنعش لأجوائها، وهنا يكمن الفرق بين خصامات الساسة الذين يضعون المثقف في فوهة المدفع، وبين خصامات المثقفين الذين يزجون برجال السياسة في عنق الزجاجة... أقول ذلك لأن المثقف اليوم مجرّد جندي صغير في فيلق السياسي الذي يمسك بدفة القيادة، مجرّد كراكوز يحمل طبلة ويردد ما يجب عليه ترديده، فهل يليق به هذا الدور؟ إن رضي بهذا الدور فعليه أن يخرج عقله من رأسه ويودعه في ثلاجة، ويمضي مع القطيع الذي يعيش بدون عقل.