علي سعد الموسى

وبالطبع، وكي تكون بقية النقاش واضحة للجميع، فمحاوري الصاخب المثير دوما للجدل إخواني لا يخفي توجهاته، ولا يجامل بالتقية عليها، وهو مسلك أحترمه له ولا أنكره عليه، فهذه ليست مسؤوليتي ولا تتفق مع أطروحتي في قبول الآخر المختلف. في نهاية حديثنا الجاد الحاد الطويل قال لي هاتين الجملتين: الأولى أن ما يراه مني في بغض حماس وإقصاء حركة الإخوان المسلمين هو شيء من التطبيع الثقافي الذي استطاعت إسرائيل أن تخترق به شريحة هائلة من الأنتلجنسيا والمفكرين وأساتذة الجامعات في الخريطة العربية والإسلامية.
الثانية، وهي الأهم، أن المشروع الصهيوني منذ بروتوكولات صهيون ثم مشروع «هيرتزل» الشهير، يقوم على تحييد وتدجين منظومات جوارها، فنصبت بعث الأسد على سورية، وأعطت لبنان دستوريا لتوافق المارونية مع الشيعة، وكبلت مصر والأردن في اتفاقيات سلام للاستسلام، وهي اليوم ستصل إلى بعض دول الخليج بعد أن ضمنت دول المغارب العربية، فلم يبق من حصون المقاومة إلا حركة حماس في الخاصرة الإسرائيلية.
تركته في حديثه الطويل قبل أن أقاطعه في الجملة القائلة، ومن فمه، عن حماس التي تبقت وحدها في الخاصرة الإسرائيلية. قلت له: متفق معك في كل شيء ولكن بشرط أن نقبل نظرية الدهاء والتخطيط الاستراتيجي الصهيوني كاملة غير منقوصة أو مجزأة. فإذا كانت إسرائيل ومن قبلها كل أدبيات الحركة الصهيونية قد استطاعت تحييد وتدجين عشرين شعبا ونظاما عربيا، واستطاعت أيضا إسكات كل جيوشها ومن بعدها أقلامها وعقول مثقفيها
كي تعيش هادئة هانئة، فكيف تفسر لي أن كل هذا الدهاء السياسي والتفكير الجهنمي لهذه الآلة الصهيونية قد غفا سهوا ليترك حركتين صغيرتين مثل حركة حماس وحزب الله مثل جمرتين؟ واحدة على القدم وأخرى فوق النخاع.
وأنا لن أذهب مع محاوري في الإيمان الأعمى بنظرية المؤامرة لأقول إن حزب الله وحركة حماس صنائع استخباراتية صهيوإسرائلية. أنا سأقول إن إسرائيل استطاعت أن تبقى وأن تحتفظ بما يمكن له أن يخدم أهدافها الوجودية. وحين تتحدث عن ثنائية إسرائيل/‏ الغرب في المخيال العاطفي للأخير فإن إسرائيل تستغل سذاجة قادة هاتين الحركتين على الظهور الشعبي العارم على أنها الضحية، وتعمل آلتها الدعائية الجبارة على تسويق هذه الصورة من أجل حشد التعاطف.
لم تفعل حماس مجرد تفتيت ما تبقى من فلسطين إلى أكثر من فسطاط، بل أيضا انقسم العالم العربي من حولها 
إلى قبائل. نفس الشيء فعله حزب الله حين جعل لبنان رهينة. هل عجزت إسرائيل عن إنهاء مجرد حزب وجماعة، وهي التي فعلت هذا بدول أكبر من ذلك بكثير جدا؟ والجواب أن إسرائيل -وكما هو واضح- ترى في هذا الحزب وتلك الجماعة ضرورة وجود ملحة وتاريخية، عبرهما استدرت إسرائيل مليارات المعونات والهبات، وعبرهما أيضا جربت كل ترسانتها العسكرية في مناورة تدريب مجانية لم تكلفها بالوثائق من الخسارة المادية أكثر من مليون دولار. هذه هي الحقيقة.