سميرة المسالمة

ليست هناك مدينة تشبه المرأة كبيروت. الصفات التي تطلق على أي منهما تنطبق على الأخرى، فهي الفاتنة والمراوغة، الجذابة والعنيدة، الحنون والقاسية، السهلة والصعبة، ما من وصف إلا وبيروت سيدته، وهي التي منحها الشاعر محمود درويش أعذب قصائده.

هكذا كانت بيروت قبل أن نصبح نحن السوريين «لاجئين» بين جنبات مخيماتها، لأنها أقرب إلينا كلاجئين جدد، وأبعدها عن استبداد ينخر عظام «دولتنا»، ويقذف بنا في شتى أرجاء الأرض، وهي بقيت كذلك حتى بعد أن أصبحت النيران تأكل خيامنا، في مخيم الرائد، في محيط مدينة قب الياس، ومخيم تل السرحون في بلدة بر الياس، ولا نعلم متى وأين موعد النيران القادمة مع أجساد سوريين آخرين في أرجاء أخرى من لبنان «يا قطعة سما»!

في الغضون تصدح أصوات ممثلي الكتل البرلمانية داخل أروقة البرلمان اللبناني طالبة ترحيلنا، كأننا هناك بمحض صدفة سياحية قادتنا إلى حيث «سويسرا الشرق»، أو لؤلؤته، كما يحلو لنا تسميتها، والتي تناسى أصحابها أن ثمة منهم من ذهب إلى أماكننا في القلمون وريف دمشق وحمص وحلب، ليقتلعنا من جذورنا، بسلاح ادعى أنه لمقاومة إسرائيل فقط، في حين لم يعد يوجهه ضد عدوه المفترض إسرائيل وإنما ضدنا، أي ضد الشعب السوري الذي احتضنه، وأمّن له المسكن والاحتياجات زمن كان الادعاء صحيحاً، وكانت البندقية باتجاه غير صدور السوريين ومدنهم.

السوريون موجودون في لبنان في شكل طارئ وقسري، لكن بعض من ادعى أنه يمثل لبنان بات في سورية منذ سنوات، يقتل ويهجر ويدمر في شعبها، بل ويستولي على أملاك السوريين ويغير خريطة مدنهم جغرافياً وسكانياً. وهذا البعض يلبس حيناً وجهه اللبناني، الذي لا يشبه وجوه أهالي لبنان «الطيبين»، لكنه في أحايين أخرى لا يراه السوريون إلا وجهاً إيرانياً، ينفذ أجندة إيرانية بلسان لبناني في سورية، وكذلك اليوم في البرلمان اللبناني وفي الحكومة وعبر وشاياته بين المواطنين، عندما يطالب بإعادة السوريين إلى بلادهم عبر محادثات مع الحكومة السورية، ليس لأنه يرى أن الحرب الوحشية التي شنتها هذه الحكومة على السوريين انتهت وحل الأمان في أرض طاولها التدمير، بل لأن شروط توسيع حصة النظام في أي حل تفاوضي مع المعارضة، باتت تتطلب هذه الأكاذيب والمراوغات، متناسياً ومن معه، من المطالبين بعقد التفاهمات مع النظام لإعادة السوريين، أنه بذلك يزيد من دائرة ضحايا المقتلة السورية التي جرت بالمشاركة مع «حزب الله»، اللبناني الهيئة والإيراني التبعية والأجندة. 

ينسى هؤلاء كلهم أن معظم السوريين هربوا من جور النظام وملاحقاته الأمنية وأحكامه الجائرة عليهم، فكيف يمكن الدعوة لإعادتهم إلى حيث ينتظرهم الغدر؟ وكيف يحدث ذلك بدل أن تقوم الحكومة اللبنانية بدورها الانساني والسياسي برعايتهم وتوفير الأمان والحماية لهم؟

لا ينكر أحد على لبنان معاناته لكونه دولة صغيرة المساحة، وقليلة الموارد، وتعاني ما تعانيه اقتصادياً، وسياسياً، وهو ما يتوجب على الأمم المتحدة -الصامتة أمام عذابات السوريين في لبنان اليوم- أن تتحرك لإيجاد حلول تجنب لبنان الدولة آثار استضافتها نحو مليون ونصف المليون من السوريين، كما يتوجب على المعارضة السورية المتفرجة بدورها أيضاً، أن تتحرك مع أصدقائها لإيجاد مخرج للسوريين من جهة، وللدولة المضيفة التي أرهقت خلال السنوات السبع وما قبلها، من هجرة السوريين إليها، كملجأ من عذاباتهم، سواء السياسية أو الاقتصادية، حيث بنت العمالة السورية المهاجرة إلى لبنان كثيراً من ذاكرة العمارة الحديثة في بيروت وبقية المدن، وهو الأمر الذي لا ينكره شعب لبنان غير المؤدلج إيرانياً الآن، أو المرشح لانتخابات نيابية في العام المقبل.

لا أحد يريد لأهلنا أن يبقوا في غربتهم هذه، كما لا يمكن القول إننا عاجزون عن فعل أي شيء يتعلق بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، أو على الأقل عودتهم إلى المناطق المحررة عبر تركيا، وهو ما تستطيع كيانات المعارضة وفي مقدمها «الائتلاف»، أن تعمل عليه مع أصدقاء الثورة وذلك حماية للسوريين من جهة ولتعزيز وجودها في المناطق المحررة من جهة ثانية.

لا يمكن أن ننكر دور المعارضة في ضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه المواطنين السوريين في لبنان والأردن وتركيا، طالما أرادت أن تكون ممثلة لهم سياسياً وخدمياً، عندما أنشأت حكومتها التنفيذية. لكن قبل ذلك لا يمكن أن يتناسى المجتمع الدولي، ومنه الدولة اللبنانية، أن وجود السوريين في لبنان إنما هو بسبب حرب طاحنة شنها النظام على شعبه، وشارك فيها لبنانيون، أقصد «حزب الله»، سواء بتفويض من الحكومة الشرعية، أو باغتصاب هذا التمثيل عنوة، لذا فإن عودتهم، أي اللاجئين، إلى سورية قبل أن تحط هذه الحرب رحالها، وتعود ميليشيات «حزب الله» إلى جنوبها مع سلاحها، هي عودة بالإكراه، هدفها إكساب النظام السوري نصراً مزوراً، ككل انتصاراته على شعبه الأعزل الذي طالب بدولة ديموقراطية، دولة مواطنين أحرار متساوين أفراداً وقوميات، فقوبلت مطالباته بالنار والقنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة، من جانب النظام ومن يدعمه، مثل إيران عبر ذراعها «حزب الله» والميليشيات الطائفية من كل حدب وصوب، ولا يستبعد أن جزءاً منها لن يغادر لبنان في طريق عودته من سورية بعد انتصاراته المزعومة.

أعود إلى بيروت: الطاحنة، القاهرة، بيروت التي تطحن الجيوب والأرواح وتقهر عشاقها بالانتكاسات المتجددة، وأقول هامسة، بيروت معشوقة السوريين، لا يهز صورتها بعض الأصوات النشاز، ولا يعكر صفو وجهها التنافس على طرد السوريين من قبل مرشحين لانتخابات قادمة، لأننا نثق أن بيروت الجميلة القوية الحرة ستنتصر على بيروت المتأرجحة على حساسية ميزان الصراعات الطائفية والمصلحية، وعلى بيروت التي زعمت النأي بالنفس في حرب تأكل من دمها، وتعتاش على أرواح أولادها. 

بيروت الحب التي يعرفها نزار قباني، ونحبها معه، على رغم حماقات الانسان ستظل معنا وفي قلوبنا: ما زلت أحبك يا بيروت القلب الطيب... ما زلت أحبك يا بيروت الأمل، يا بيروت العدل.


* اعلامية وكاتبة سورية