حسن حنفي

تطورت القيم في مصر المعاصرة في العقود الأخيرة وتغيرت. وقد يكون اللفظ الأدق هو تقلب القيم لأن مسار هذا التطور هو التحول من الضد إلى الضد، والتغير من النقيض إلى النقيض، دون تراكم كافٍ في كل قيمة حتى تظهر قيمة أخرى مضافة لا تنقض القيمة السابقة.

والقيمة غير الشعار. إذا ضعفت القيمة على مستوى السلوك الفردي والجماعي، وإذا كانت مفروضة من النظام السياسي فإنها تصبح شعاراً، لفظ يخفي أكثر مما يكشف كالعربي المتعطل على الحدود تحت يافطة: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»! وكأطفال الشوارع وفقراء القمامة والنائمين على الأرصفة والعاطلين والشحاذين وفوقهم شعارات العدل الاجتماعي، والعمل حق لكل مواطن، والتأمين الاجتماعي! القيمة باقية، والشعار ذاهب. القيمة فعل، والشعار قول. القيمة موضع احترام، والشعار مثير للسخرية!

تظهر القيمة في سلوك الناس. وتصبح على مدى عدة أجيال مكوناً رئيسياً في الثقافة الوطنية وفي الشخصية القومية. وتؤرخ بها المراحل المختلفة للعهود والعصور. ففي الثورة البريطانية مثلاً، ثورة كرومويل، ظهرت قيمة «الدستور» وضرورة وجود برلمان منتخب من الشعب للرقابة والمراجعة. وفي الثورة الفرنسية، والثورة الأميركية ابنتها، ظهرت قيم المواطنة والإنسان بالإضافة إلى الحرية والإخاء والمساواة، المبادئ الثلاثة للثورة الفرنسية، التي يرمز إليها العلم المثلث الألوان. وأفرزت أيضاً الثورة الاشتراكية في روسيا قيم العدالة والطبقة العاملة. وفي ألمانيا وإيطاليا وكذلك أثناء الحرب الأهلية الأميركية ظهرت قيمة الوحدة بين الولايات تحقيقاً لوحدة الأوطان.

وقد مرت على مصر المعاصرة في القرن العشرين ثلاث تجارب وطنية، كل منها تمثل مرحلة تاريخية صغرى أو عهداً أو عصراً أو حقبة: مصر الليبرالية من ثورة 1919 حتى ثورة يوليو 1952، ومصر الاشتراكية من ثورة يوليو حتى وفاة عبدالناصر في 1970 وهي الجمهورية الأولى، ومصر المنهوبة بعد وفاة عبدالناصر أثناء الجمهوريتين الثانية والثالثة. كانت القيمة الرئيسية في المرحلة الأولى الحرية، حرية الفرد وحرية الوطن. وكانت في المرحلة الثانية العدالة الاجتماعية. وفي المرحلة الثالثة نهب مصر. بين الأولى والثانية هناك اتصال بين الحرية والعدالة، الحرية للفرد والعدالة للمجتمع. أما نهب مصر فهو انقطاع عن تطور مصر الطبيعي وانقلاب على القيمتين الأوليين، وهدم ما تم بناؤه من قبل وخاصة أنها قد طالت أكثر من المرحلة الأولى، ثلاثة وثلاثين عاماً، والثانية ثمانية عشر عاماً، والثالثة واحد وأربعون عاماً حتى قيام ثورات ما سمي «الربيع العربي» في 2011.

في مصر الليبرالية كانت الحرية بكل أبعادها هي القيمة: حرية التعبير، حرية الصحافة، الحرية السياسية، التعددية الحزبية، البرلمان، الدستور والنضال المستمر من أجل دستور يعبر عن سلطة الشعب «الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة». ونشأت المؤسسات والجمعيات العلمية والجامعة الوطنية الأولى عام 1925 ابنة ثورة 1919. واستمر التخطيط العمراني. وفيها نشأت الحركة الوطنية المصرية التي بلغت ذروتها في الأربعينيات من أجل الاستقلال وضد الاستعمار.

وفي مصر الاشتراكية تصدرت قيمة العدالة الاجتماعية كرد فعل على التفاوت ومجتمع النصف في المئة وكبار الملاك الزراعيين. وتجلت في الإصلاح الزراعي وتحديد سلم للأجور، وإعطاء حقوق العمال، والالتزام بتشغيل الخريجين، وضبط الأسعار، ودعم المواد الغذائية لمحدودي الدخل، وسيطرة البنك المركزي على باقي البنوك. وتطورت القيمة من الاشتراكية التعاونية إلى الاشتراكية العربية إلى التطبيق العربي للاشتراكية إلى الاشتراكية الديموقراطية.

ثم أتت التجربة الثالثة، مصر المنهوبة. ولفظ «نهب» متداول في الاقتصاد السياسي مثل «نهب العالم الثالث». وبدأ التجريح في التجربة الثانية للتخلص منها كما تخلصت التجربة الثانية من التجربة الأولى. وأخذت أسوأ ما في التجربتين، وليس أفضل ما فيهما. وزورت الانتخابات لحساب الحزب الحاكم الأوحد. وفي الاقتصاد تم التحول كلية من اشتراكية الدولة إلى رأسمالية الفرد. وخصخص القطاع العام، وبيعت شركاته بأرخص الأسعار. ورفع الدعم عن المواد الغذائية. واحتكرت تجارة الحديد والإسمنت. وغابت الرقابة على الأسعار. وعمت الكوارث. وهُربت أموال مصر إلى الخارج. وهو ما أدى إلى ثورة الشعب في يناير 2011 وما استتبعها من آثار وتموجات.

إن الوعي التاريخي بتغير القيم في مصر المعاصرة هو أساس الوعي السياسي. فلا يوجد عصر إلا وله قيمة، الحرية أو العدالة. أما النهب والسلب والفساد وتهريب الأموال فهو دائماً نذير بخراب العمران.