مجاهد عبدالمتعالي

تقوم المملكة بوضع النقاط على الحروف وفق سياسة خارجية يجب علينا كمواطنين الوقوف معها دون تحريف المبطلين الذين يريدون تصوير سياستنا الخارجية كجزء من صراع طائفي

احترمت الأديان مسألة الفضاء العام والخاص، ولهذا نرى أن الإمامة في الصلاة داخل المنزل لا تكون إلا بإذن صاحبه، مهما كان في الضيوف من صاحب سماحة أو فضيلة، فسيبقى أصحاب السماحة والفضيلة مفضولين إلا بإذن صاحب المنزل الذي يملك الفضاء الخاص بمنزله.
الفضاء العام خارج المنزل يبقى ملك الدولة والتي تراعي فيه تعدد المذاهب الدينية والتوجهات الفكرية بين مواطنيها، ولهذا دورها يكمن في حفظ النظام العام، ويبقى السؤال: ما موقف المواطنين من مفهوم النظام العام، فالشعب متنوع، وهذا التنوع يقتضي من الدولة تأسيس مفهوم (التسامح) بين المواطنين في الفضاء العام ليكون فيه حيزا للجميع على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم، فإن وجدت فئة من المجتمع لا تؤمن بقيمة (التسامح) فسيقع الصدام بين المتسامحين ويمثلهم غالبية الشعب، وبين اللامتسامحين، وهم قلة، لكنهم أكثر عصبية ويتوهمون أن لهم شوكة فوق شوكة الدولة، وغالبا يظهر لنا أن المتسامحين، وهم غالبية الشعب، يفضلون الاستسلام لغير المتسامحين ما لم تتدخل الدولة لحماية التعددية في الفضاء العام، فيستثمر اللامتسامحون تجاهل الدولة لهذا الفراغ، فيصفونه بأنه استحقاق لهم، وأنهم من يقود توجهات الدولة، فتظهر الدولة كما لو كانت فرعا لداعش، أو دولة شمولية لها صوت واحد ولون واحد، بينما الحقيقة تقول إن الدولة الحديثة ليست مشغولة بالاصطفاف مع فئة ضد فئة، بل مشغولة بضمان السلم الأهلي بين أطياف الشعب، عبر فرض قوانين ضد الكراهية وإثارة النعرات، فالدولة الحديثة ليست مشروعا شموليا مستبدا، لتكون مشغولة بفرض توجه أقلية على أغلبية أو العكس بقدر حرصها على سلامة الجميع من تغول فرد أو جماعة باسم الدين أو القبيلة على فرد أو جماعة أخرى، فالمواطنة مساواة في الانتماء لا اصطفافات بالولاء، فالخدمات تصل مبنى جمعية الثقافة والفنون كما تصل الحسينية كما تصل المول التجاري كما تصل المسجد الجامع كما تصل مبنى البنك في الشارع المقابل له، أو المستشفى أو الفندق، ويبقى الولاء الديني أو العشائري أو الفكري خيارا شخصيا من خيارات حق التجمع المكفولة في شرعة حقوق الإنسان ما لم تدع للكراهية والتعصب والعبث بالنظام العام. هل من مهام الدولة حماية الدين؟ نعم وحماية الدين على نوعين فالنوع الأول مظهر عام تمارسه كل دول العالم حسب ثقافاتها واختلاف دياناتها، ويسمونه الحفاظ على الأخلاق العامة في المجتمع، بل إن بعض دول الغرب مثلا تتشدد في بعض الإجراءات الخاصة بالحفاظ على المرأة من التحرش أو الطفل من الانتهاك أكثر من تشدد بعض الدول المسلمة، حفاظا منهم على الطفولة ونشأتها في بيئة سليمة وسوية، وهذا الحفاظ على الحقوق نتشاركه مع دول العالم باسم اتفاقيات (حقوق الإنسان) كمعيار معترف به دوليا، نحاول الوصول فيه لأعلى المستويات كدولة تنتمي للعالم الحديث.
ويبقى النوع الثاني من حماية الدين، والتي تخص المملكة العربية السعودية لتشريف الله لها بأن فيها قبلة المسلمين وقبر نبيهم الكريم، عليه الصلاة والسلام، وعليه فما تطرحه الدولة من مفاهيم دينية في مناهجها الدراسية أو على لسان بعض خطبائها في المساجد أو وعاظها في وسائل التواصل سيبقى محسوبا عليها أمام العالم، حتى ولو حاول البعض إعطاء مساحة من الحرية للخطيب والواعظ، وهنا نعود لما طرحناه في أول المقال عن التسامح مقابل اللاتسامح، فعندما يخلط البعض عن قصد أو غير قصد بين الحق في حرية الرأي والتعبير ليضرب السلم الأهلي من خلال كلماته المليئة باللاتسامح، وإثارة الضغينة والبغضاء بين فئات الشعب، بل وبين الناس في الداخل والعالم من حولنا، فإن حق حرية الرأي والتعبير يسقط عنه ليحل مكانه قانون إثارة الكراهية والتأثير على السلم الأهلي، فكيف إذا استعان أصحاب الضغينة واللاتسامح بقنوات داخلية أو خارجية تحت دعوى حرية الرأي والتعبير؟!!.
عندما دعا الملك عبدالله علماء الدين بأن يجتهدوا ويتركوا الكسل، كان يقصد بذلك أن ينفوا عن الدين غلو الغالين وتحريف المبطلين، فالعالم من حولنا كان وما زال يعقد المقارنات بين ما يراه في داعش وبين ما يدعو له بعض شيوخ الداخل من مفاهيم تكاد تشي بأنهم ينهلون من منهل واحد، وكأنما الدين الإسلامي هو ما تقاطعت فيه داعش مع بعض شيوخ الداخل المحسوبين على هذا الوطن، ثم جاء الملك سلمان لتتزعم الدولة على جميع الأصعدة ما عجز عنه الكسالى في كل مجال، سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، فتقوم المملكة بوضع النقاط على الحروف وفق سياسة خارجية يجب علينا كمواطنين الوقوف معها دون تحريف المبطلين الذين يريدون تصوير سياستنا الخارجية كجزء من صراع طائفي، بينما سياستنا الخارجية تريد نزع الفتيل الطائفي الذي تستثمره إيران بعمامتها السوداء، عن طريق استثمار المعطيات الدولية الحديثة لتعرية هذا الطموح القروسطي الذي يعيد العرب جميعا إلى عصور غزوات المغول والتتار وملوك الطوائف، وهنا يظهر الجانب الصعب في حماية الدين من غلو الغالين، فكل مواطن سني أو شيعي، سلفي أو صوفي، لا يؤمن بالمساواة في المواطنة بين السعوديين، فهو من الغالين في الدين، وهؤلاء قطعا أقلية، لكنها كما ذكرنا أقلية تعيش (اللاتسامح)، وعندما ترتطم مع غالبية المواطنين (المتسامحين) فإنهم يغلبون الأغلبية عندما يجدون فرصة في إذكاء التعصب والضغينة بين فئات المجتمع، فحتى بعض بلاد أوروبا بدأت بإعادة السؤال الوجودي على نفسها، عندما وجدت نفسها مع أقلية تستغل (التسامح) في فرض مبادئها الدينية القائمة على (اللاتسامح)، ولهذا فرضت أنظمة جديدة لا يتفهمها كثير من المسلمين، رغم أنها في أصلها قائمة على مبدأ (المعاملة بالمثل)، فالتسامح إن لم يجد دولة تدافع عنه فسيستشري بين شعوب الدنيا مزاج من الكراهية المضادة سببه عرابو اللاتسامح في كل دولة ودين وملة. أخيرا قد تؤمن دولة من الدول (باللاتسامح) وتطرحه كسلاح أيديولوجي لها تمد به نفوذها، وتستقطب عرابي الضغينة من كل الأرض، لنرى بجوارنا (كوريا شمالية) تتكلم بلساننا ولها نفس ديننا، تريد أن تكون آخر معقل من معاقل حراسة الأفكار الشمولية التي تجاوزها العالم، سواء كانت باسم الشيوعية الحمراء، أو باسم الإسلاموية السوداء.
معيار داعش كمنظمة إرهابية يتقاطع تماما مع كوريا الشمالية كدولة مارقة، حتى ولو اختلفت اللغة والدين والمنهج الفكري وتاريخ النشأة، وعلى كل دولة أو منظمة تتقاطع مع أدبيات داعش أو كوريا الشمالية أن تبحث عن غطاء يحميها من رياح العولمة التي تقتلع أشجار الشوك التي تسقيها كل عقلية شمولية لا تؤمن بأنها جزء من العالم بمفاهيمه المقررة عن حقوق الإنسان (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية)، وكل مناورة أو تذاكٍ ضد هذه الحقوق ليس إلا خزيا وعارا يأباه كل وطني حر أن توصم به دولته.