عرفان نظام الدين

هناك ألف سبب وسبب لوصول العرب إلى ما وصلوا إليه من هذه الحال المزرية التي يعيشونها في هذه الأيام. وهناك ألف مسؤول ومسؤول عن جرهم إلى حافة الانهيار. لكن ما من أحد يلجأ للبحث والتنقيب الجدي والجريء والتحدث بصراحة عن الواقع، عن خوف أو عن لا مبالاة واستسلام، على رغم علم الجميع أن الاستمرار في عدم وضع اليد على مواضع الجراح ومواطن العلل سيؤدي إلى كوارث.

من بين هذه الأسباب، أو بالأحرى العلل الأساسية، أختار اليوم تحولين رئيسيين ساهما في تدمير أسس بناء الأمة ووحدتها ومنع تقدمها ووصولها إلى مصاف الأمم المتقدمة، بسبب ممارسات خاطئة وخطايا قاتلة، منها قمع الحريات ومصادرة الحقوق الأساسية للمواطن وأولها حقه في تقرير مصيره والتعبير عن رأيه.

وعودة سريعة إلى الوراء تحدد لنا هذين التحولين البارزين، وهما:

مرحلة سيادة التيار العروبي بعد الثورة العربية الكبرى في مطلع القرن المنصرم، بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي إثر تكريس مؤامرة إعلان دعم قيام إسرائيل وتقسيم الأمة العربية إلى دول متناحرة وفق حدود سايكس- بيكو وصولاً إلى نكبة فلسطين الكبرى عام ١٩٤٨.

هذه الانتكاسات حملت إلى العرب كل ما عانوه من آلام وآمال ضائعة ووعود زائفة ومآس لملايين اللاجئين، ما زالت تتفاعل وتشعل نيران الحروب والانقلابات التي دمرت البشر والحجر وأفرغت البلاد من الخبرات العسكرية والعلمية والثقافية وساهمت في تهجير النخب العربية وخيرة رجال الأعمال والأيدي العاملة.

فمرحلة ازدهار العروبة كانت في بداياتها تمثل الربيع العربي والنضال من أجل الوحدة التي بقيت شعاراتها حبراً على ورق تستخدم كذرائع للوصول إلى الحكم والاستيلاء على مقدرات الشعوب وتحقيق أهداف مشبوهة بسبب ممارسات من حملوا اسم العروبيين، وكان بعضهم صادقاً في إيمانه وبعضهم الآخر تحول إلى أدوات لدى القوى الأجنبية المدفوعة من الصهاينة ومؤامراتهم الرامية إلى إشعال نار الفتن وتكريس الفرقة بين العرب.

كان يمكن هذه الفورة القومية أن تحقق إنجازات كبرى تمهد للوحدة على أسس أنظمة فيديرالية أو لا مركزية وبطريقة تدريجية تقوم على حفظ حقوق الجميع وتأمين العدالة والمساواة. إلا أن العروبيين الذين انقسموا إلى أحزاب وتيارات ومجموعات وفئات متناحرة أحبطوا هذه الأهداف وساهموا في إحداث هوّة اتسعت تدريجياً لتصل إلى حد الكراهية والأحقاد وإشعال نار الحروب العبثية.

كما كان يمكن هذا الهدف النبيل أن يبني قوة عظمى تبني ولا تهدم وتحافظ على الثروات البشرية والاقتصادية والزراعية والبترولية والمعدنية. لكن ربط شعارات الوحدة بأنظمة ديكتاتورية ادعت أنها المنقذ الوحيد أحبط الآمال وحوّل المسار من عمل قومي إلى مجرد صراعات على السلطة وحروب بين الأنظمة.

وأدت هذه الخطايا إلى قمع الحريات وكمّ الأفواه وربط الوحدة بمبادئ مستوردة في زمن ازدهار اليسار، وأدخلت العرب في أتون الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.

وتزامنت هذه الممارسات مع التدمير المنهجي للاقتصاد الوطني، بالفساد أولاً ونهب الثروات، ثم عبر قرارات جائرة غير مدروسة تمثلت في التأميم العشوائي الذي طاول شركات وطنية خالصة ورائدة شملت حتى المتاجر الصغيرة، ثم مصادرة الأراضي الزراعية تحت مسمى «الإصلاح الزراعي» الذي تحول إلى القضاء على قطاع رائد كان يمكن أن يثبت أنه «إهراءات الشرق».

ورافقت هذه الممارسات سلسلة قرارات عشوائية أدت إلى ضرب الطبقة الوسطى التي تعد «بيضة الميزان» في أي مجتمع، لأنها تمثل الرقي ومصدر الغنى والثقافة والعلم والإبداع ومنع حصول اختلال في التوازنات وظهور طبقتين: الأولى ذات ثراء فاحش، والثانية طبقة فقيرة ومعدمة تمثل الأكثرية الساحقة.

وضمن هذه الخطايا، ضُربت المناهج التعليمية وتم تأميم المدارس والجامعات الخاصة التي كانت تخرج سنوياً الآلاف من أصحاب المهارات الذين يتقنون لغات أجنبية ويملكون القدرة على مواكبة روح العصر ومتابعة كل ما يطرأ من علوم وإنجازات ومتغيرات.

وأذكر في هذا المجال نظرية لأحد الحكماء تقول: «إذا كنت تعتقد أن التعليم باهظ الثمن، فإن عليك أن تجرّب الجهل». وهذا ما يحصل الآن بسبب تخلف مناهج التعليم وقطع الأواصر مع العالم المتحضر في عصر التكنولوجيا والعلوم التي لا يمكن التعامل معها إلا بإتقان اللغات والانفتاح على الآخر.

ومع الأيام، تحوّل الجهل إلى آفة تزامنت مع غياب أفق الديموقراطية وضرب المؤسسات التي يفترض أن تمثل ميزان العدالة ونصرة الحق، لأن فساد القضاء يؤدي حتماً إلى فساد الدولة.

وزاد الطين بلة انتشار التعصب القومي العربي ورفع شعارات وهمية عن الوحدة العربية أدت إلى تهميش الأقليات وشعورها بالاضطهاد والتمييز العرقي، على رغم أنها تمثل أحد مكوّنات الأمان، ما أدى إلى تصاعد النزعات الانفصالية بعدما كانت تنعم بالمساواة وتشارك في الحكم، ومنها الأكراد والأمازيغ وأهل النوبة في مصر والسودان والطوارق... وغيرهم.

وللتوضيح، أكرر أن العلة ليست في العروبة، بل في ممارسات العروبيين بشتى أحزابهم وتياراتهم التي أدت إلى الخراب والفشل في تحقيق أي إنجاز في مجال الوحدة والتضامن وانغماسهم في مستنقعات الفساد، علماً أن السلطة لا تفسد الرجال، أما الأغبياء الذين متى وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها.

والتركيز على هذا الواقع لا يعني إنكار الأسباب الأخرى وأولها إقامة دولة إسرائيل لتحقيق هذه الأهداف الخبيثة والمؤامرات التي تنفذها يومياً بدعم من قوى أجنبية طامعة بالثروات، إضافة إلى تيارات عربية ساهمت في التفرقة.

إلا أن فشل العروبيين أدى إلى كوارث أكبر لأنهم لم يحسنوا التصرف ولم يخططوا أو يستعدوا لمواجهة هذه المؤامرات والدفاع عن هدف الوحدة، فانتقل العرب من الاستسلام لضربات مطرقة العروبيين ومن بعدها الرضوخ لسندان الإسلاميين الذين فرضوا سطوتهم بإعلان مبادئ تحت شعار «الإسلام هو الحل»، لكنهم ساروا على نهج مناقض للدين بارتكاب الموبقات واعتماد التطرّف واستخدام العنف والعمليات الإرهابية وتشويه صورة الإسلام، دين المحبة والسلام، بسكاكين الذبح والأحزمة الناسفة والدعوة إلى القتل والتكفير وقمع الحريات ومصادرة الحقوق وسبي النساء وتدمير القيم الحضارية التي حافظ عليها المسلمون عبر التاريخ.

وهنا أيضاً أوضح أن الفرق كبير بين ما ينادي به الإسلام وما ظهر من ممارسات الإسلاميين المتطرفين، وليس كل الإسلاميين، فالإسلام براء من كل ما حصل لأنه يدعو إلى التسامح والتعايش والوسطية والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما يدعو إلى كلمة سواء بيننا وبين أهل الكتاب وفق مبدأ «لا إكراه في الدين».

ولهذا لا يمكن أي إنسان، إلى أي دين انتمى، إلا أن يستنكر عمليات الإرهاب، وآخرها ما تعرض له إخواننا الأقباط في مصر الذين أوصانا بهم الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، كما يستنكر قتل المدنيين الأبرياء والأطفال والنساء في مانشستر وغيرها، عدا عن شجب تعريض الجاليات الإسلامية والعربية للأخطار.

وهكذا ساهمت أعمال مدّعي الإسلام في إكمال ما بدأه العروبيون، ومن دون التعميم لا بد من إعادة تقييم المواقف وتصنيفها وفق ممارساتها وانتقاد المراحل السوداء التي أدت إلى ضرب مكوّنات المجتمعات العرقية، ثم ضرب المكوّنات الدينية من مختلف الأديان والمذاهب، ما أدى إلى تفريغ المنطقة وتهجير مئات الآلاف.

والأخطر من ذلك هو ما تم تعميقه من شروخ بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، بعد تقسيم العرب وإثارة النعرات بينهم في المرحلة الأولى. وقد لا يعجب هذا الرأي بعض الناس، وهذا حق لهم، لكن من واجب كل من لديه رأي آخر أو نظرة مخالفة أو مقاربة معارضة أن يرد ويشرح ويثبت نظريته، فنحن الآن نقف أمام مرحلة مصيرية تفرض على كل واحد منا أن يتحمل مسؤوليته ويساهم في المعالجة والتقريب بين أبناء الأمة.

هذا الواجب لن يتحقق إلا بالمصارحة واحترام الرأي الآخر وتقديم الإثباتات، حتى نصل إلى شاطئ الأمان ونبدأ مرحلة المعالجة ووضع اليد على مواطن العلل ومواجهة كل من ساهم في الهدم وتدمير البشر قبل الحجر ومحو هويتهم.

وأختتم مع حكمة لوزير خارجية أسبق للولايات المتحدة، هو كورديل هيل، تعبر عن واقعنا بقوله: «إذا أردت أن تلغي شعباً، فعليك أن تبدأ بشل ذاكرته التاريخية، ثم تلفّق له تاريخاً آخر غير تاريخه وتعلمه إياه، عندئذ ينسى هذا الشعب من هو ومن كان وأين هي معالم حضارته، وبالتالي ينساه العالم ويصبح مثل الأمم المنقرضة كالديناصورات».

نعم، هذا هو الواقع، وهذا ما تم تنفيذه حتى يتحوّل العرب مع الأيام إلى أمة منقرضة إذا استمر السكوت عن الحق وإنكار الحقيقة وتواصلت فصول تشويه التاريخ وإنكار الحضارة والتخلي عن القيم والهوية ومبادئ الدين السمح ودور العرب والمسلمين المشرّف عبر التاريخ.