صلاح سالم

ثمة وهم سياسى افتضح أمره قبل أربع سنوات مع فشل الحكم الإخوانى لمصر، ويبدو فى سبيله للافتضاح فى تركيا الأردوغانية، يتمثل فى إمكانية تشييد نظام ديمقراطى على غير أساس علماني، وكأن الديمقراطية مجرد صندوق انتخابى شفاف دون أعماق، يذهب إليه الناخبون كل عدة أعوام فى رحلة حج سياسية، من دون تدريب أساسى وممارسة عملية لمفهومى: المواطنة والمدنية. فالعلمانية هى الأساس لأى عقد اجتماعى مدنى بين مواطنين أحرار، يقوم على المساواة الكاملة بينهم. وهى كذلك الجذر الأساسى الذى تستقى منه الشخصية الإنسانية قيمتها المائزة كذات فردية مستقلة عن شتى صنوف الوصاية، والذى يضمن لكل فرد حضوره الواعى كمواطن يتعين عليه الاختيار الرشيد بين متنافسين يدرك خلفياتهم الأيديولوجية وبرامجهم السياسية، ولا ينتخبهم على أساس الهوية الدينية أو الانتماءات القبلية أو حتى الإقليمية. ومن ثم تأتى الديمقراطية كثمرة يانعة لهذه البيئة المتمدينة، إما محاولة تجاهلها أو القفز عليها فالأغلب أن تفضى إلى كوارث سياسية، لأنها تضاد طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ. 

وبقدر ما إن العلمانية ضرورة لإرساء الديمقراطية، فإن الديمقراطية تمثل آلية لترشيد العلمانية، بدفعها بعيد عن تلك الأشكال الراديكالية «الوجودية أو الفائقة» باتجاه الحدود المقبولة «السياسية أو المعتدلة». فقد سطعت مقولة نهاية الدين، التى مثلت الحد الأقصى لادعاءات التنوير المادى والعلمنة الفائقة حول مستقبل الدين فى عالمنا، منذ النصف الثانى للقرن التاسع عشر، وحتى منتصف العشرين، فتحدثت عن موت الله أو رحيله عن عالمنا، انطلاقا من اعتقاد متعجل باستحالة وجود أديان كبرى تقبل بالعلمنة السياسية المعتدلة وتتعايش مع الحرية الفردية، ومن ثم توقعت نشوب معركة صفرية بينهما لابد وأن تنتهى بهزيمة الدين والخلاص منه عبر صيرورة يسطع فيها الإنسان ويختفى الله، تنمو فيها الحداثة ويموت التقليد، تزدهر فيها العلمنة ويتجه الدين نحو الأفول. وفى الحقيقة لم تكن هذه المقولة مجرد طرح نظرى برىء بل كانت أقرب إلى برنامج سياسى نهضت به بعض الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية، وتمت ممارسته بفاعلية أو بشكل قسرى من أعلى كما كان الأمر فى فرنسا، إذ لم يتوقف الأمر عند حد الفصل بين الدين والمجال العام السياسى أو تفكيك تحالف الكنيسة والإقطاع لمصلحة الطبقة البرجوازية الصاعدة، بل تمت مطاردة الدين فى قلب المجتمع حتى وصل الأمر إلى قلب الريف الفرنسى، حيث هدمت كنائس، وتحول بعضها إلى دور لهو، وتم منع الطقوس فى بعضها الآخر، وكفت الأجراس عن الرنين فى بعضها الثالث، ناهيك عن نزع ممتلكاتها فى كل الأحوال بتوزيعها على الفلاحين أو تأميمها لمصلحة الدولة. شىء من ذلك حدث على الشاطئ الإسلامى، فى تركيا الكمالية حيث مورست العلمانية، بروح متطرفة تكاد توصف بالأصولية، لأكثر من ثلاثة عقود منع خلالها التعليم الدينى، وتم وقف الآذان، وإغلاق بعض المساجد وقمع كثير من مظاهر التدين فى المجال العام، خصوصا اللباس المحتشم لدى المرأة. 

غير أن هذه الصيغة الفائقة من العلمانية قد هزمت تاريخيا بالفعل، هزمت فى فرنسا بتنازلها عن غطرستها وأحاديتها، رغم انتصارها سياسيا، بل بفضل هذا الانتصار، خصوصا بعد اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بها فى المجمع الفاتيكانى الثانى «1962 ـ 1965» اعترافا نظريا وليس فقط واقعيا، حيث صارت حرية العقيدة راسخة ومتجذرة فى مفهوم «الكرامة المقدسة للكائن البشرى». ورغم استمرار هيبة الكنيسة بعد هذا المجمع، فإنها لم تقبل فقط الاعتراف الدستورى بالفصل بينها وبين الدولة، وبمبدأ الحرية الدينية، بل تخلت أيضا عن أى محاولة لإنشاء أو رعاية أحزاب كاثوليكية، بغرض الدفاع عن حظوظها فى السلطة، أو عن امتيازاتها الدنيوية، وظلت تعمل ضمن أطر المجتمع المدنى وحده، الأمر الذى أفضى إلى نتائج عدة إيجابية تمثلت فى تحرير الدين من الدولة، وتحرير الدولة من الدين، وتحرير الشخص الإنسانى كذات فردية، من هيمنة كليهما معا، فامتلك حريته السياسية إزاء الدولة، وحريته العقدية إزاء الكنيسة، فكان انسحاب الدين من المجال العام وفك قبضته عن رقبة الدولة بمنزلة انفراجة كبيرة قدمت له الحماية وسمحت باستمراره فى قلب المجتمع، بإحالته إلى أمر شخصي، قد تنفذ بعض إشعاعاته إلى المجال العام الاجتماعى. 

كما هزمت فى تركيا بموت أتاتورك، ثم تراجع حزبه «الشعب الجمهورى» أمام أحزاب متتالية تصاعد انتماؤها الإسلامى تدريجيا ولكن بالمعنى الحضارى، تمكنت من إعادة تعريف هوية البلاد على نحو أكثر توازنا. حدث هذا التحول عمليا بفعل الديمقراطية نفسها، لأن لكل مجتمع متمدين مرجعيته القيمية، التى لا يستطيع الإفلات منها ولو أراد بعض منتسبيه. ولأن تلك المرجعية إنما تؤكد حضورها وتفرز نفسها فقط من خلال الفضاء العام الذى يشغله الناس بقيمهم الراسخة، ويعكسه المشرعون المنتخبون بقدراتهم التمثيلية، حيث إن مركز السيادة فى الدولة المدنية، والنظام السياسى العلمانى هو الإرادة العامة، القادرة من ثم على التحكم فى تشكيل السلطة وممارستها، وانعقاد الشرعية واستمرارها. ولأن كل شعب، وهو بصدد صوغ مصائره، إنما يقوم بذلك على قاعدة قوامها الأساسى عناصر هويته وفى قلبها الدين، الذى تتخلل قيمه الجوهرية دساتير هذا الشعب وقوانينه التى يصدرها أى برلمان منتخب ديمقراطيا، حيث الضمير العام لجماعة المشرعين، الممثلة للجماعة الوطنية، ومن ثم فما يفرزه من تشريعات لابد أنها سوف تستلهم القيم المستقرة فى هذا الضمير والمجمع عليها لدى الشعب، وهكذا يمكن التصدى للنزعات الراديكالية، وإرساء السلطة على قاعدة الاعتدال، وهكذا يتحرك بندول التاريخ بين العلمانية والديمقراطية فى سلاسة واضحة، لا يعكر صفوها إلا اقتحام الاستبداد الدينى لها، فعندها تستحيل إلى دائرة تاريخية مغلقة ترتبك خلالها حركة المجتمعات، ولعل هذه الحالة هى التى تعيشها تركيا الآن، مع انتقال حزب العدالة والتنمية من مربع الإسلام الحضارى إلى زاوية الإسلام السياسى، وما يعنيه ذلك من افتئات على العلمانية السياسية والديمقراطية فى آن.