عبد المنعم سعيد

 هناك أمران لا بد منهما لعودة الشرق الأوسط إلى درجة معقولة من العقلانية: أولهما أن تكون هناك قوة مركزية كافية لكي توازن وتكبح جماح القوى الساعية لهدم المنطقة؛ وثانيهما أن يكون هناك مشروع للإصلاح الداخلي في الدول، وبناء الأمن في الإقليم

. كلا الأمرين مرتبط، وتاريخياً، فإن مصر والسعودية عندما تعاونتا في مواجهة التوسع الإسرائيلي، والثورة الإيرانية، والجموح العراقي، فإن النتيجة كانت تحقيق الاستقرار في المنطقة، وإعطاء الفرصة للنمو والتنمية في الداخل. الآن، التجمع الرباعي (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) الذي طالب قطر بالالتزام بقواعد مكافحة الإرهاب ورتب على ذلك أشكالاً متعددة للمقاطعة؛ قد بات مطالباً من قبل شعوب المنطقة بما هو أكثر. المسألة ليست أن قطر دولة صغيرة، فهي أيضاً واجهة لقوى راديكالية وإرهابية متنوعة، مضافاً لها قوى إقليمية - إيران وتركيا - أسفرت عن وجهها خلال الأسابيع الماضية. المهم في كل الأحوال ألا تخفي الشجرة القطرية الغابة الكثيفة والمظلمة من خلفها؛ فهي تخفي جماعات إرهابية متعددة، تقع في مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين كبيرة الحجم والتمويل ومحكمة التنظيم، والممثلة في أكثر من 81 دولة في العالم. وربما لم تتأثر قطر من أي قوة سياسية خلفها بقدر ما تأثرت بالجماعة، خصوصاً في أساليبها المخادعة التي تعرف ماذا تفعل ساعة الضعف، وماذا تفعل ساعة التمكين؛ وكيف، في كل الأحوال، تكون لها خطب مزدوجة بين العربية والإنجليزية، وبين الليبرالية والتطرف العنيف.

قطر أيضاً تعلمت من القوى العظمى والكبرى المختلفة، فوفقاً لاعترافات قطرية، فإن الولايات المتحدة وعدداً من الدول الأوروبية لم تكن تملك أو تستطيع التعامل والتواصل مع جماعات إرهابية، فكانت الدوحة هي الجسر إلى «كوكتيل» كبير من الجماعات التي تبدأ بطالبان وتنتهي بـ«داعش»، وجميعهم يعيشون ويتواصلون تحت العباءة الإخوانية. مثل ذلك كان مسيرة طويلة للدولة القطرية التي وجدت نفسها تعبر عن وجهات نظر راديكالية من خلال «الجزيرة»، بقدر ما كان عليها أن تتكلم عن الاعتدال في القنوات والمواقع الغربية. وبينما كان اللعب على الحبال جارياً، لم يسلم الأمر من أن تستخدم قطر أدوات إرهابية في الوقت الذي تضع فيه نفسها في صف الحرب على الإرهاب. وفي كل الأحوال، فإن الدول التي استخدمت قطر بزغت خلال الأسابيع الماضية لاعبة دور الوسيط، ومطالبة الدول العربية بأن تحل أزماتها، وكأن المجموعة الرباعية لم تطلب من قطر إلا أن تكف عن العدوان عليها بالتحريض والتآمر.
الفائدة الرئيسية فيما سميت «الأزمة» القطرية كانت كشف ما خفي في قضية محددة هي محاربة الإرهاب؛ ولكن ما انكشف عبّر عن مستويات متنوعة من الأطماع الجغرافية في دول الإقليم التي سقطت فريسة الحرب الأهلية والتنازع الداخلي. فالحقيقة أن «تحالف آستانة» - روسيا وإيران وتركيا - لم يكن معبراً عن تحالف لإيقاف نزف الدم في سوريا، بقدر ما كان تمهيداً دبلوماسياً لتقرير المصير السوري الذي بدوره سيكون بفعل الجغرافيا محدداً أيضاً للمصير في العراق ولبنان. وبقدر ما كان هذا التحالف الإقليمي طارحاً نفسه في المجال الدبلوماسي لتنظيم حالة الشرق الأوسط، فإن كل الأطراف الإقليمية والدولية تنتظر النتائج التي سوف يفضي إليها اجتماع بوتين وترمب الذي تم على «هامش» اجتماع مجموعة الدول العشرين. المدهش في هذا الاجتماع أن المدة التي كانت مقررة له هي نصف ساعة فقط، ومع ذلك، فإن المشروع الأميركي، كما عبر عنه وزير الخارجية الأميركي في بيان رسمي، يفوض روسيا في إدارة المسألة السورية شريطة توحيد العدو فيما تبقى من «داعش»، ومع بقاء النظام السوري، فإنه يمتنع عن استخدام الأسلحة الكيماوية؛ ومن أجل هذا، فإن الولايات المتحدة سوف تستخدم قوتها العسكرية، وتساعد في إنشاء مناطق آمنة، ومناطق للحظر الجوي. ما المقابل الذي سوف تأخذه الولايات المتحدة أو ترمب، وهل هو في العراق، أم بالتخلي الروسي عن التحالف مع إيران وتركيا؟ تقرير مثل هذه الأمور لا يتم في نصف ساعة، وإنما عبر اتصالات ومشاورات على مدى الأسابيع والأشهر الماضية.
الأسئلة كثيرة، ولا يمكن أن تظهر الإجابة عنها ما لم تكن هناك قوة كافية مقابلة تأخذ مصالح دول وشعوب المنطقة في الاعتبار. لقد سبق في هذا المقام طرح تصور لميثاق سياسي يخص تسويات المنطقة بحيث تتم المحافظة على دول الإقليم القائمة بحدودها الراهنة، مع استعادة قوة الدولة بأن تكون هي وحدها المحتكرة لعناصر القوة المسلحة، مع الحفاظ على حقوق الأقليات. ولكن المواثيق مهما كانت جدارتها لا تطبق نفسها، وإنما تحتاج إلى طاقة سياسية وأحياناً عسكرية لتنفيذها. ولذا، فإن الدول الأربع بات عليها أن تتحول من مجرد ائتلاف في مواجهة مع واجهة قطرية لقوى مختلفة، إلى تحالف لأصحاب الإرادة والعزم بين الدول العربية التي تلعب دوراً رئيسياً في إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وتحقيق الأمن الإقليمي فيها. هذه المسألة لا يصلح فيها إحراج دول عربية تريد أن تظل بعيدة أو تتصور أن خلاصها يكون بالبقاء بعيداً عن نيران ملتهبة؛ وإنما هي عملية لمن يعرف أن النيران الملتهبة للتقسيم والتمزق والإرهاب لا تترك أحداً لوحدته.
من الناحية العسكرية، فإن الدول الأربع تقاسمت كثيراً من الأنشطة المشتركة خلال السنوات الماضية ظهرت في مناورات دورية شهدت أنواعاً متعددة من الأسلحة في البر والبحر والجو. ولكن القوات المسلحة في كل الأحوال لا تعمل دون سياسة تدير العلاقات بين الأطراف المتحالفة، وسياسة تدير العلاقات مع الدول الأخرى في الإقليم؛ عربية كانت أم غير عربية، وسياسة للتعامل مع الدول الكبرى والعظمي. هذه السياسات جمعاء تكون في التحالفات القوية جزءاً من استراتيجية شاملة تحدد الأدوار، وتتقاسم التكاليف، وقبل هذا وذاك، تعرف الأهداف المراد التوصل إليها، والحزمة من السياسات اللازمة للوصول إليها. كل ذلك لا تكفي فيه الاتصالات الجارية، ولا التفاهمات بين الأجهزة الأمنية، ولا الاتصالات المستمرة بين القادة، وإنما هناك حاجة ماسة للعرض على الرأي العام العربي كله. بكلام آخر؛ فإن التحالفات الدولية المستمرة والأصيلة تستمد أصالتها من الرأي العام العربي في هذه الحالة، وهو الذي في النهاية سوف يقدم لها الدعم والتضحيات.
لقد كان وضع النقاط على الحروف وتحتها فيما يخص قطر خطوة كبيرة نحو المكاشفة مع الشعوب العربية، بمن فيها الشعب القطري، حول الدور السلبي الذي تلعبه قطر في السياسة العربية في لحظة مصيرية يتحدد فيه مصير أقطار عربية، بل والمنطقة العربية كلها. الآن؛ فإن هذه الخطوة الشجاعة يمكنها أن تكون بداية لما هو أهم وأكثر جدارة؛ فالمصير العربي ينبغي له ألا يتقرر في «سايكس - بيكو» أخرى نبكي بسببها لعقود مقبلة. الآن؛ فإن الأمة بأسرها تتعرض لاختبار كبير، من الممكن أن تنجح فيه إذا ما عرفت كيف تتحالف، وماذا تفعل بهذا التحالف، في مواجهة تحالفات جارية بالفعل تضع العرب جميعاً في مرمي النيران.