ناصر الحزيمي

لعل الكثير منا ممن أدرك مرحلة بداية السبعينيات، وما تلاها أنها هي المرحلة التي تنامى فيها المد (الصحوي)، ففي تلك الفترة كان الصراع على أشده بين المعسكر الشرقي -وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الغربي- وكان على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما تعورف على تسميته بالحرب الباردة. ففي تلك الفترة أخرج (محمد أنور السادات) الإخوان المسلمين من السجون وأتاح لهم العمل الحركي فصدرت مطبوعاتهم مثل (مجلة الدعوة) وغيرها. كما نشط التنظيم الدولي التابع لجماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم، وظهرت علينا أشرطة الكاسيت المحملة بخطب (الشيخ عبدالحميد كشك)، وهي خطب تستحق التوقف والتأمل لها. فهذا الرجل الكفيف البصر بشكل نسبي كان خطيباً مفوهاً، وكانت خطبه مؤثرة في النفوس والأسماع ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن هذا الخطيب كان مؤثراً في سامعي خطبه!، والتي كانت عبارة عن توعية سياسية أكثر منها توعية دينية أو روحية.

كما أن في هذه الفترة حدثت حادثة (الفنية العسكرية) وهي محاولة انقلابية فاشلة قام بالتخطيط لها (صالح سرية) ومجموعة من شباب الإخوان، وبعد هذه الحادثة ظهرت أفكار (جماعة التكفير والهجرة) وكانوا يسمون أنفسهم (جماعة المسلمين)، فهذه الجماعة قد تبنت مبكرا تكفير المجتمعات ونبذ التحديث ومحاربته، حتى إنهم كانوا يمارسون الاغتيالات من خلال استعمال السكاكين لأن المسدسات لم تكن في عصر الرسول أو أصحابه موجودة، وهكذا دواليك. ووصل بهم الحال إلى تكفير العصور اللاحقة لعصر الخلفاء الراشدين أو التوقف في أمرها، ولهذا نجد أنهم قليلاً ما يستشهدون بالحديث الشريف ويقتصرون في حججهم على القرآن الكريم؛ وذلك لموقفهم الضال من خلافات الصحابة ومن بعدهم. المهم هنا أن هذه الجماعة كانت تمارس التكفير على مصراعيه وأحياناً تتوقف في بعض الشخصيات، فيدعون أنهم لا يعلمون ما إذا كانت هذه الشخصية مؤمنة أو كافرة.

إن الآلة الإعلامية الموجهة لتمجيد بطولات وكرامات المقاتلين في أفغانستان صنعت نوعاً من النفسيات التي نبذت الرموز العلمية وتكبرت عليها، وهذا ما نعيش تبعاته في هذه الأيام، حيث تجد أغيلمة لا يفقهون من الدين شيئاً قد أعطوا لأنفسهم الأحقية في فهم النصوص واحتكار المعرفة والصواب..

وتلا هذه الجماعة بعد قتلها للشيخ (الذهبي) في تلك الفترة، وإن بقيت الكثير من أفكارها تتردد بين شريحة عريضة من الشباب الإسلاميين، تلا ذلك بفترة وجيزة وتحديداً في 1979م، أن وصل الخميني إلى إيران وتبوأ فيها سدة الحكم بعد طرده للشاه (محمد رضا بهلوي)، وذكرنا في بعض المقالات السابقة كيف صنع هذا الرجل في فرنسا، ومن ثم أرسل إلى طهران لتحقيق المشروع الغربي في تلك الفترة. إن وصول الخميني الشيعي إلى الحكم بتأييد جماهيري أثار لغطاً في وقتها بين تيارات الإسلام السياسي السني، وكان التساؤل المطروح بينها هو كيف يصل رجل ضال ومبتدع إلى إنشاء دولة ونحن أهل السنة لم نستطع أن نقيمها؛ وبعد أحداث إيران تلاها الحادثة المشينة التي قام بها مجموعة من شباب التيار السلفي وعلى رأسهم (جهيمان)، جميع هذه الأحداث حدثت في السبعينيات وهي الفترة التي بولغ في إعطاء الحريات المطلقة لجماعات الإسلام السياسي في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وفي الثمانينيات اغتيل رئيس جمهورية مصر العربية (محمد أنور السادات) بيد (خالد الإسلامبولي) ومجموعته من الجماعة الإسلامية، ثم وقعت أحداث حلب وحماة في سورية وقمعت بشدة، وكان على رأس مؤججيها جماعات الإسلام السياسي. ثم دخلنا لهذا العقد وأعني هنا عقد الثمانينيات مرحلة الجهاد الإفغاني وما حدث فيه من نشوء فئات جديدة منتمية للإسلام السياسي، والتي شكلت تحولاً جذرياً لمسار الدعوة الإسلامية، فبعد أن كانت الدعوة تنتهج الخط السلمي والإيجابي في الموعظة الحسنة، أصبحت الأولوية هنا في أفغانستان لأفواه البنادق وللعنف، وبعد إنهاء القتال في أفغانستان وجدت شريحة كبيرة من الكوادر التي قاتلت في أفغانستان في حالة من عدم التأقلم مع الوضع السلمي والطبيعي، فذهب بعضهم إلى الشيشان وقاتلوا هناك، وذهب بعضهم في التسعينيات إلى البوسنة والهرسك للقتال هناك واكتشف بعد ذلك في مرحلة التسعينيات أن هؤلاء الشباب الذين قد تلبستهم روح الراديكالية والعنف وأصبحوا عبئاً ثقيلاً على مجتمعاتهم علماً أنهم أصبحوا ينادون بطبقة جديدة متعالية على الخطاب السوي النهضوي والحداثي، فهاجموا في أدبياتهم كبار العلماء ومؤسسات الدولة ورموزها.

وقيل في مدحهم أكاذيب وأباطيل تدخل في كثير من الأحيان حيز الخرافة كما قرأنا في كتاب (آيات الرحمن في جهاد الأفغان) للدكتور (عبدالله عزام)، فقد ذكر في هذا الكتاب كرامات لم تحدث للصحابة ولا لتابعيهم.

إن الآلة الإعلامية الموجهة لتمجيد بطولات وكرامات المقاتلين في أفغانستان صنعت نوعاً من النفسيات التي نبذت الرموز العلمية وتكبرت عليها، وهذا ما نعيش تبعاته في هذه الأيام، حيث تجد أغيلمة لا يفقهون من الدين شيئاً قد أعطوا لأنفسهم الأحقية في فهم النصوص واحتكار المعرفة والصواب، حتى أصبحوا ألعوبة بيد أصحاب الأجندات الخاصة، فواحد مثل (أبو مصعب الزرقاوي) هو أقرب إلى العامة يقاتل باسم الدين وينتهك الحرمات باسم الشريعة، ثم يأتي بعده فصيل هو أشد جهلاً بالإسلام وبروح الشرع الحديث، وأعني هنا "داعش"، فهذا الفصيل الذي تآلف معه كوادر حزب البعث العربي الاشتراكي وهيمن عليه بجهالاته وخصوماته، فالحلف الذي تم بين كوادر البعثيين وجهلة الأفغان العرب قد أوجد ممارسات لا تمثل بأي شكل من الأشكال الإسلام الحنيف المتسامح، ولا تمثل أي مقصد من مقاصد الشريعة؛ وإننا هنا لا نحارب مجموعة قد فهمت الإسلام فهماً خاطئاً أو متطرفاً، وإنما نحارب مجموعة خرجت على الدين الإسلامي وعملت بمنهجية مدروسة على تشويهه، وأنه من العبث أن نظن أن مثل هؤلاء الدواعش قد يؤثر فيهم الحوار البناء أو الحقيقة العلمية، فهم قد أصموا آذانهم واستكبروا على تراث أمتهم المجيد.