وسام سعادة

لا يمكن التكهن بكم من سنة بعد سيتواصل الاحتراب في العراق وسوريا. هذا الاحتراب بدأ في العراق بعد التدخل الاميركي لإسقاط نظام صدام وما تبعه من حلٍّ للجيش النظامي وتفشّي مناخ تغلّب فئوي من جهة، ومناخ عدمية دموية غذّتها بالتناوب أنظمة اقليمية عديدة، لم يكن أقلّها نظام آل الأسد، الذي سهّل حركة آلاف المقاتلين نحو العراق لسنوات طويلة، قبل ان يُجبر لاحقاً على عرقلة هذا المد ويصطدم بهذه العدمية الدموية، وقبل أن يدفعه هلعه من امتداد شرارة انتفاضات 2011 الى سوريا ومن تحويلها الى انتفاضة شعبية شاملة واظب على مواجهتها بعيار دموي متمادٍ، ودافع رأساً نحو الحرب الأهلية، يوم اقتحامه مدينة حماة في آب من العام الأول لثورة السوريين.

لقد تبدلت كثيراً توزعات السكان وخارطة العمران بعد 15 عاماً على الاحتلال الاميركي للعراق، وست سنوات على تحول نظام آل الاسد من نظام استبدادي له سمة طائفية الى نظام احتضار دموي يفرز السوريين بين عرق نافع، وعرق ضار، وبعد كارثة تهجير بالملايين في البلدين، لكنها كانت اكثر ضخامة واتساعاً لرقعتها بين البلدان في حال البلد الاصغر، سوريا، منها في حال العراق. عنى ذلك، تراجعاً واسعاً لمن صاروا يُعرفون بالعرب السنّة، في بغداد والبصرة، وسياسة تهجير تحمل هذه السمة من ريف حمص الى القلمون، كما عنى تدمير شرق حلب برمّته، ودمار فظيع حلّ بالموصل، من دون ان يكون مع ذلك ممكن تبديل السمة الاثنية المذهبية في هاتين المدينتين ومنطقتهما. عنى ايضاً سنوات طويلة من المقاربات العربية الخاطئة للمسائل الكردية، من المقاربات غير القادرة على الاعتراف بالكرد كمجموعة قومية حضارية أصيلة في سوريا والعراق، وعدم القطع مع التراث البعثي الالغائي لهم، بل الاكتفاء بنزع الطابع «العلماني» عن هذا التراث، وإلباسه عباءة «دينية» تقصي اول ما تقصي ملايين السنّة الكرد عن المجموع السنّي في كلا البلدين، في عزّ الصراع المذهبي المتداخل مع التمدد الايراني والمواجهين له.

بدأت مرحلة الاحتراب هذه بسقوط النظام البعثي في العراق، ويصعب تصور كيف يمكن ان تنتهي من دون سقوطه في سوريا. بدأت في مرحلة وهج تنظيم «القاعدة» ويصعب تصور كيف يمكن ان تنتهي قبل الأفول النهائي لتنظيم الدولة أو «داعش». رغم اعلانه دولة ديموقراطية وفدرالية، بقي عراق ما بعد صدام محكوماً بتغلبية مذهبية معاكسة لتلك التي قامت في ظل صدام، وبدل العمل على تصحيح المشاركة السياسية، كان خيار العدمية الدموية الداعشي الذي دفع بالكارثة الى حدود قصوى. اما في سوريا، فالتسوية السياسية يُحكى عنها منذ سنوات، بلا طائل حتى الآن، والنظام الذي أُنقذ بالتدخلين الايراني والروسي عاد الاقوى بين المتحاربين، لكن ان يعود من نظام احتضار دموي مزمن الى رتبته السابقة كنظام استبدادي يمارس الحرب الاهلية من جانب واحد، فدون ذلك مجتمع متصدع ومبعثر ما عاد للنظام اي قدرة قسرية لاعادة توحيده، بعد ان تجلّت طائفية ودموية النظام بهذا الشكل النافر، والاستعماري الداخلي في علاقته مع ملايين السوريين.

الكارثة والمرارة تفترض مساحة من التملي في كل هذه السنوات، في كل السذاجات التي تهافتت تباعاً، حول اشكال التحول الديموقراطي في البلدين، لكن ايضاً، وقبل ذلك، كل الترددات في القطيعة النهائية والكاملة مع العقلية البعثية بكل انماطها واشكالها. لكن هذا يعني ايضاً، انه، من دون مقاربة شاملة، تمتد من بيروت حتى بغداد، وتنطلق من تقييم كل ما حدث منذ 2003، لاعادة تصور هذه البلدان كقابلة للحياة، والتعدد، والمشاركة، والمصالحة، والتحرر. ثمة تسويات سياسية عالقة ومترابطة ومؤجلة، في العراق، في سوريا، في لبنان، ولا يمكن اقتفاء اثر خارطة طريقها، بل طرقها المتعرجة، الا باسترجاع خارطة اربع عشرة سنة ماضية، سنوات الاحتراب المشرقي الكبير.