للجوء السوري في لبنان روائح مذهبية، إضافة إلى جوانبه المعيشية الضاغطة، وفوق هذا وذاك يأتي مخصبا بأخطار الإرهاب الذي يطل برأسه أكثر كلما اضمحل حجم الأورام الداعشية في الموصل والرقة.

محمد قواص

يدور النقاش حول مسألة اللجوء السوري في لبنان داخل مستويات مختلفة ووفق أمزجة متباعدة. فالمسألة ليست نظرية تطال مفاهيم وعقائد، بل إن الحضور السوري يخترق يوميات البلد، وبات يطال مسائل تتعلق بمعيشة اللبنانيين كما بأمنهم واستقرار كيانهم.

وفيما يسهل كيل الاتهامات بالعنصرية على كل من ينتقد هذا الحضور ويطالب برحيلـه، فـإن الخطـب المتضامنة مـع اللاجئين السوريين والمنتقدة للعصبيات العنصرية ضدهم تبقى إطلالات قيمية تنظيرية، ربما أنها ضرورية لاستمرار إسباغ الأخلاق على الخطاب السياسي، لكنها تبقى نخبوية فوقية تمس شكل الظاهرة دون مضمونها.

ورفض الوجود السوري في لبنان شبيه بذلك الرفض الذي طال الوجود الفلسطيني قبل عقود لجهة خـوف اللبنانيين، أو بعضهم، من تضخم أغلبية “غريبة” داخل توازنات “ولاد البلد”. وفي حيثيات المقت المحلي لأي أجنبي ما يكشف الوهن الذي أصاب مناعة البلد وديمومة منظومته، بما يعني أن الشكوى من وجود كائنات أجنبية تهدد النسيج الاجتماعي والسياسي والديمغرافي الأصيل، سببها عجز ذلك الأصل عن أن يبقى أصلا في لغته ولهجته وأسلوب عيشه.

تقليديا، وأكاد أقول بنيويا، فإن بعض مسيحيي لبنان ما زالوا مؤمنين بأن لبنان وطن للمسيحيين، تم اختراعه من أجل هذا الهدف، وأن خطيئة تاريخية أتاحت للمسلمين شراكة في اقتسام ثروات البلد والسلطة داخله. ما زال بعض المسيحيين غير مدركين بأنهم، ومنذ أكثر من 1400 عام يعيشون في منطقة يهيمن عليها المسلمون، وما زالوا يتصرفون وكأن هذه الواقعة عرضية ستزول يوما ما، وعليه فلا بأس في الاستغراق في تكتيكات تعايشية، بانتظار اندثار تلك الحقيقة والانتقال إلى وطن نقي الطبيعة والهوية والعقيدة والمضمون.

لكن لا بد من الإقرار بأن خصوصية لبنان الذي يعيش منذ أكثر من 1400 عام داخل ذلك العالم الإسلامي الممتد شرقا، تكمن في وجهه المسيحي الذي قد يكون، من بين أسباب أخرى، وراء تميّز ما عرف به البلد في صورته وثقافته وتقاليده ونظامه السياسي الفريد داخل مشهد “الأمة” الكبير. وعليه فلا بد من الإنصات جيدا إلى ما يقلق ذلك الوجه ويجعله مرتعبا من تلك الزلازل التي ترسل ارتداداتها إلى داخل البلد، مرة على نحو قومي، ومرة على نحو ديني، ومرة على نحو كارثي.


رفع مسيحيو لبنان يوما صرخة تطالب بأن لا يتحول بلدهم إلى الكيان المقاتل الأول والأخير لدولة إسرائيل، وأن لا يكون وطنهم صندوق بريد تستخدمه كافة أجهزة المخابرات في العالم لتبادل الرسائل. لم يفهم كل اللبنانيين ذلك الصراخ واعتبروه مشبوها عميلا لأجندات برانية تتآمر على ما هو جواني. قاد “سوء التفاهم” إلى حرب أهلية دامت 15 عاما قبل أن ينتج “حسن التفاهم” اتفاق الطائف الشهير الذي ما زال بعض المسيحيين يعتبرونه خطيئة ارتكبت بحكم القوة وقهر مفاعيلها.

في موسم التصدي لحزب الله في لبنان، أعاد لبنانيون آخرون متضامنون مع بعض المسيحيين إنتاج الخطاب المسيحي القديم. أضحى شعار “لبنان أولا” الذي كان كُفرا في زمن “عروبة لبنان” عنوانا سيدا للدفاع عن لبنان، ذلك “الوطن النهائي” الذي اكتشفه المؤتمرون في الطائف عام 1989. باتت السيادة والاستقلال والمطالبة بترسيم الحدود مع سوريا مبادئ تناضل من أجلها تشكيلات سياسية كان جمهورها إبان الحرب الأهلية ملتصقا بأيديولوجيات قومية أممية لا تؤمن بحدود وتستكثر على لبنان سيادته واستقلاله.

هزمت الحرب الأهلية الخطاب المسيحي القديم الذي كان ديدن أحزاب “الجبهة اللبنانية”. دخل لبنان عصر الوصاية السورية واخترقت مفاعيلها المشهد السيـاسي المسيحي فشوّهته وصـدّعت بنيانه وصادرت تمثيله السيـاسي وبات بعضُه ينظّر للعروبـة ويبشّر بالممانعـة ويُقسم بحياة الرئيس القائد في دمشق. وهزمت المواجهة مع حزب الله خطاب “السياديين” اللبنانيين. انكفأت قـوى السيادة والاستقلال إلى حصون السلطة بمعناها التحاصصي.

لم يعد النقاش يقتحم مسألة سلاح حزب الله المتمرد على الدولة ومسألة قرار السلم والحرب في البلد. وبات انهماك كافة التيارات السياسية يرتكز على تفاصيل محلية خدماتية إنمائية تقل فيها السياسة التي لا يتجاوز سقفها مسألة إنتاج قانون جديد للانتخابات. وعلى هامش ذلك الضجيج يكمل حزب الله، دون كسل، إكمال مشروعه اللبناني الإقليمي “الأممي” دون كثير اكتراث لجلبة الطوائف والأحزاب في تناحرها اليومي من أجل تحسين شروط المحاصصة داخل المؤسسات.

من تلك الهزائم يعود اللبنانيون لتلمس جسد كيانهم الذي أصابته رضوض الكوارث التي أتى بها “ربيع العرب”. ينتقل أكثر من 1.5 مليون سوري إلى أحضان البلد موقظين أهل البلد على وهن بناهم التحتية، بالمعنى المادي الذي ينظم عيش الناس اليومي، وبالمعنى الأيديولوجي الذي يرسم حدود الوطن وهويته ومزاجه.

يرى المسيحيون أو بعضهم في اللجوء خطرا مسلما يزحف باتجاه وجودهم. ويرى الشيعة أو بعضهم في اللجوء خطرا سنيا قد يقلب الغلبة الديمغرافية ويشكل مع ذلك اللجوء الفلسطيني القديم فائض قوة سنيا سيقف لا شك ندا أمام فائض القوة الذي ما برح حزب الله يتحكم بلبنان من خلاله.

فيما يسهل كيل الاتهامات بالعنصرية على كل من ينتقد الحضور السوري ويطالب برحيلـه، فـإن الخطـب المتضامنة مـع اللاجئين السوريين والمنتقدة للعصبيات العنصرية ضدهم تبقى إطلالات تنظيرية
أما السنة أو بعضهم فيتأرجحون بين تضامن مع السوريين ضد النظام المتحكم بهم في دمشق والمسؤول الأول عن نكبتهم، وبين عبء ذلك اللجوء الذي يثقل اقتصاد البلد وينافسهم بشكل غير متكافئ في سوق العمل.

لا يحمل اللجوء السوري في لبنان نفس الندوب التي يحملها في تركيا والأردن.فإذا ما كان عاملا الاقتصاد والأمن منطقيين في مقاربة ذلك الوجود في هذين البلدين، فإن لنفس الظاهرة في لبنان خصوصية تصاب بعدوى الخصوصية اللبنانية نفسها. فللجوء روائح مذهبية، إضافة إلى جوانبه المعيشية الضاغطة، وفوق هذا وذاك يأتي مخصبا بأخطار الإرهاب الذي يطل برأسه أكثر كلما اضمحل حجم الأورام الداعشية في الموصل والرقة.

وهناك نوعان من العنصرية في لبنان. نوع مرضي يُمارس ضد أي مخلوقات خارج حدود العرق والطائفة والملة، ويبنى ويتأسس على هذا الأساس، وبالتالي لا يمكن إلا إدانته ومحاربته وتجويف خطبه واستنكار الترويج له. ونوع ظرفي يمارس ضيقا من منافسة اقتصادية معيشية حقيقية تحوّل الوظائف إلى عمالة سورية رخيصة، وتتفاقم في قيام مؤسسات تجارية وخدمية سورية تنبت كالفطر تتنافس مع مؤسسات اللبنانيين ومتاجرهم ومطاعمهم.. إلخ. والنوع الأخير من هذه العنصرية أقل خبثا كونه عابرا للطوائف والمذاهب ترتفع وتيرته وتنخفض وفق قدرة الدولة اللبنانية وإداراتها على اتخاذ التدابير الحمائية المواتية.

وليست من الفطنة مواجهة خطاب العنصرية بخطاب أخلاقي متعال لا يعترف بأن هناك خطبا كبيرا ومشكلة ترقى إلى مستوى المأساة. وليس من الحنكة الانزلاق نحو نفس البلادة التي تمت بها مواجهة خطاب المسيحيين عشية انفجار الحرب الأهلية عام 1975. وليس ناضجا اختصار الآفة بعناوينها السطحية دون المغامرة بالإنصات مليا إلى حجج العامة الذين لا يتغذون بأيديولوجيا، ولا يتنفسون هواء الأجندات الخبيثة.

فإذا بقي الموقف من اللجوء السوري فضفاضا حمّال أوجه، فإن وفاة أربعة معتقلين داخل سجون الجيش اللبناني تصبح تفصيلا دراماتيكيا مروعا قد يبتلعه سجال اللبنانيين المسطح حول مسألة لا تحتمل فلكلورية الضيعة الرحبانية.


صحافي وكاتب سياسي لبناني