محمد الرميحي

 سوف أترك ملفات الشرق الأوسط السياسية والملتهبة التي تتكشف حولنا بجديد كل يوم، فالكتابة في هذه الملفات وفي هذه الأوقات كحمل زبالة في ظلام دامس. سوف أشارك القارئ الكريم في موضوع آخر، فليأذن لي، وهو تعبير أو اصطلاح (عبد أسود في كومة خشب)!

ما قصة هذا التعبير؟ لنبدأ الحكاية من أولها، سيدة بريطانية هي عضو نشطة في البرلمان عن حزب المحافظين، هي السيدة أنا ماري مورس، وهي من أشد المتحمسين لخروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة، وكانت تتحدث لمجموعة من الباحثين عن الاحتمالات المختلفة والمتوقعة للخروج من السوق الأوروبية، وهي احتمالات تناقش بتوسع في الحياة السياسية البريطانية، بعد الاستفتاء الشعبي بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وتتراوح احتمالاتها بين ما يسمى بالخروج الصعب، أي (أن تدفع بريطانيا مليارات من اليورو إلى الاتحاد تعويضاً عن الأضرار) أو الخروج السهل (أي الخروج من بعض الملفات والبقاء في ملفات أخرى مثل قطاع الأعمال والتجارة) التي تحاول بريطانيا البقاء فيها لأنها تحقق مصالحها، وهو موضوع يشغل الساحة السياسية البريطانية بكثافة. قالت السيدة العضو مورس في ذلك الاجتماع لمستمعيها القليلين، إن البحث عن حلول هذه المعضلة، هو بمثابة البحث عن (عبد أسود في كومة من الخشب)! وهو تعبير ظهر أولاً في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يُعبر مجازاً عن شيء قريب من (المستحيل)، عندما كان العبيد السود المجلوبون من أفريقيا ويستعبدون في المزارع الجنوبية، يهربون من تلك الولايات التي تستعبدهم إلى الولايات الشمالية على قطارات تنقل الخشب، وبالتالي من الصعب العثور عليهم! هذا التعبير اعتبر منذ فترة أنه تعبير عنصري في نطاق القيم المتحضرة لا تقبله المجتمعات، حتى أن الصحافة البريطانية التي نشرت تلك الأخبار في اليوم التالي، لم تستعمل التعبير نفسه، بل استعملت الحرف الأول من الكلمة الأولى مع بقية التعبير. بمجرد ما انتشر استخدام العضو ذلك التعبير في مجموعة صغيرة من الناس، حتى أوعزت رئيسة الوزراء البريطانية السيدة تيريزا ماي، إلى رئيس الأعضاء في البرلمان، ويسمى مجازاً (السوط)، وهو تعبير مجازي آخر يصف عمل الشخص (الرجل أو المرأة) المناط به (أو بها)، التأكد من حشد أعضاء الحزب للتصويت في القضايا المعروضة على البرلمان، كما تقرر قيادة الحزب، كما يراقب سلوك الأعضاء العام من حزبه، أوعزت السيدة ماي لـ(السوط) أن يوقف السيدة العضو من العمل مع المجموعة البرلمانية التابعة للحزب، ويقدمها للجنة المساءلة، لأنها استخدمت ذلك التعبير العنصري الذي يشين الحزب!

يبدو للقارئ العربي أن تلك القصة كلها (لا معنى لها)، كثير من الضجيج على لا شيء! ولكن عندما نعلم أن السيدة تيريزا ماي الرئيسة، تحكم بأقلية صغيرة في البرلمان حصلت عليها في الانتخابات في يونيو (حزيران) الماضي - واضطرت، بسبب تلك الأقلية، أن توافق على شروط شعبية من الحزب الوطني الاتحادي في شمال آيرلندا، حيث وافقت على دفع ملياري جنيه إسترليني لمشروعاته في آيرلندا الشمالية للسنتين المقبلتين، فقط من أجل كسب العشرة أصوات التي حازها في الانتخابات الأخيرة لجانب حكومتها، إذا أخذنا بتلك الحقيقة، فإن السيدة رئيسة الوزراء تحتاج إلى كل صوت في البرلمان من حزبها للمحافظة على حكومتها من السقوط، ومع ذلك، ورغم أن السيدة العضو مورس قد اعتذرت عن ذلك التعبير المشين، إلا أن الاعتذار لم يقبل!
هنا بيت القصيد، فالعمل السياسي في الثقافة الغربية بشكل عام (ولا أرغب في التعميم) له قواعد أخلاقية شبه صارمة، تضطر رئيسة وزراء تحكم بأغلبية صغيرة جدا ومهددة سياسيا، لأن توقف عضواً من حزبها بسبب تفوهها بتعبير عنصري، حرية الرأي شيء، وازدراء الأعراق أو الثقافات والأشخاص شيء آخر.
على مقلب آخر لو نظرنا إلى ما يقوله السياسيون في بعض بلادنا ليس بحق آخرين أو التحقير لعنصر بشري أو لون، بل بحق مواطنيهم المختلفين معهم، سواء في داخل البلد المعني أو في خارجه، سوف نرى كماً كبيراً من الاتهامات والإشاعات والسباب والقذف، وإشاعة الكراهية، دون أن يرف لهم جفن، أو يعمل في أدمغتهم عقل، أما إذا حاولنا أن نطلع على ما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي من أهلنا العرب في بعضهم بعضاً أو بينهم، فسوف نطالع الأهوال، في السب والشتم والتحقير، وكذلك في وسائل الإعلام التي في الغالب لا تراعي أي حد أدنى من الموضوعية، أو حتى الآداب العامة أو تقصي الحقائق.
هنا تبرز حقيقتان؛ الأولى أن (الديمقراطية) ليس كما يفهمها ويطبقها البعض في فضائنا العربي، على أنها طريق مفتوحة للاتهام والسباب والتشهير وحتى الكذب على الآخرين، لأن هناك (حصانة) للسيد أو السيدة العضو! يجعل الفاعل بعيدا من المساءلة مهما ارتكب من بذاءة، ولا هي ما تفعله وسائل الإعلام من ترويج للخداع واختراع الأكاذيب ونشر ثقافة الكراهية والتنابذ بالصوت العالي، ذلك مفهوم متخلف للديمقراطية أو الحريات، على طريقة أنها تعني للبعض (أن أقول ما أريد دون حساب أو عقاب أو حتى لوم)، هي بالتأكيد ليست كذلك، فعضو الحزب في كثير من الممارسات السياسية في الغرب ملتزم بسياسة حزبه، وإن خالف ذلك عليه أن يستقيل من الحزب أو حتى يُطرد، كما أن هناك آليات لمراقبة سلوكه السياسي، فإن خرج عن المألوف، فإنه لا يضر نفسه بل بحزبه. والحقيقة الثانية أني لست من حزب (السذج) الذي يعتقد أن (الديمقراطية الغربية) هي مثل امرأة قيصر، لا يأتيها العيب من أمامها أو خلفها، هي تحمل عيوباً لا شك في ذلك، وفيها ممرات مظلمة، إلا أنها تحمل أيضاً إصلاح عيوبها من داخلها، ولها آليات تساعد على ضبطها ووسائل إعلام مهنية وموضوعية تفضح خللها، فعلى السياسي الغربي في الغالب ألا يخطئ في العلن! فإن أخطأ في السر واستطاع النفاذ بخطئه فذلك حظ سعيد بالنسبة له، أما إن ضبط في العلن وهو يقوم بالخطأ أو تسرب ذلك الخطأ إلى العلن، فهو يدفع الثمن صعباً ومباشراً وقاسياً أيضاً. تلك آليات الديمقراطية الحديثة يمكن توصيفها في ثقافتنا العربية أنها تحمل (لا ضرر ولا ضرار) أي إزالة الضرر إن وقع، وجلب المصلحة العامة التي هي أولى أن تجلب. في المقارنة بين الموقفين، تظهر لنا الفروق النوعية في الممارسة بين ما نراه أمامنا وما نعيشه في حياتنا في كومة الخشب!
آخر الكلام:
بعض ما يقال ويكتب في وسائل إعلامنا ووسائل التواصل الاجتماعي يحمل العاقل على الاستهجان، ويوصل السليم إلى حالة من الغثيان! فالهياج في نشر الكراهية هو الأصل وغيره هو الاستثناء، ومع الأسف لعلاج ذلك نلجأ إلى التشريع، علاج ذلك في الأصل منظومة قيمية، لا نصوص تشريعية!!