ماجد الحمدان

التروي والحكمة حتى في المديح تساعدنا لنعرف أنفسنا أكثر ولنحافظ على مكتسباتنا ولنصبح أفضل بشكل فعلي بعيدا عن الشعارات الجوفاء

يتميز كبار المفكرين بالقدرة على التحليل والتروي في إطلاق الأحكام، وكذلك على الجدل الذي لا يهدف إلى الوصول إلى الجواب، ولكن إلى تأخيره بعد التحقق من كافة الأدلة، وهو ما يخدم الوصول إلى أفكار أكثر جدوى وأصلح للبشرية، وهي طرق تفكير تختلف عن العقل المولع باللغة وسحر الخطابة والتي قد تلغي قدرة الطرف الآخر على التروي والمجادلة.
معجزة الحضارة الغربية التي تبلور انطلاقها من القرن السابع عشر كان من أهم أسبابها هو علو شأن النقاشات الفلسفية المتروية، وقد مر الغرب في عدة اختبارات واجه فيها تأزماته الفكرية التي تحولت إلى أيديولوجيات شمولية قاتلة، غير أن النجاح الفكري الأكبر حدث مع بداية القرن التاسع عشر في أميركا بعد اتجاه الفكر الإنساني الغربي من خلال الثقافة الأميركية وقوانينها إلى الواقعية ولتظهر معها الفلسفة البراجماتية بأهداف نبيلة تهدف إلى إيجاد الحلول والتخلص من المثاليات الزائفة والنزول من الأبراج العاجية والتي كانت تحول الثقافة إلى أشبه بصنعة غنائية جميلة لذاتها وليس لغاياتها.
بالمقابل فقد كان العرب أشعر الأمم في الأرض وأكثرها عناية بالشعر وهم من بلغ سقفاً باذخاً ومسرفاً في جمال اللغة، وكان لذلك أسبابه، نراها في الفروقات ما بين عرب الجزيرة وعرب الشام والعراق لما قبل وبعد الفتح أيضاً، وهو ما مهد لانطلاق عناية عرب الجزيرة المنتقلين إلى الشمال بالفلسفة والعلوم والفنون، فكان الكندي من أوائل الفلاسفة العرب القدامى الكبار.
المجتمعات تسير وفق القوانين، وقد كانت طبيعة الجزيرة العربية لا تؤهل على بناء حضارات بالنماذج العمرانية القديمة، إلا في حالات عابرة ومحدودة كمملكة الأنباط، وهو ما تغير اليوم. فالفقر في وسائل التدوين والكتابة والذي يساعد على انتشار المعرفة وتطور الأمم، وكذلك غياب المراكز الحضرية الكبيرة في تعدادها السكاني وتنوعها الصناعي إضافة إلى غزارة الحكم الذاتي القبلي، كان في مجمله من أسباب وحدة وسائل التعبير في الشعر، والذي كان يُغنى لكي يوزن، ويقفى لكي يحفظ، ولم يدون إلا في حالات نادرة بعد أن تتناقله الركبان كحالة المعلقات.
أما الإسراف الجمالي فكان بسبب الطبيعة القاحلة في غالبيتها والتي فرضت على الإنسان العربي أن يصنع عالماً جمالياً خيالياً بديلاً، غير أن استمرار العرب في مناطق الجزيرة العربية لما بعد المرحلة الخصيبة كان بسبب اكتشاف طرق التجارة والتي ساعدت العرب رغم كل شيء بالاطلاع على علوم وأفكار الأمم، وهو ما جعل العرب في اتصال مستمر وقابلية أكبر على استيطان الحضارات الكبرى، ثم البقاء فيها من خلال قدرتهم المعرفية على التطور والاستمرار. كما أن غياب حب التصنيع بسبب التجارة ونقص الموارد الصناعية كان أيضاً من أسباب عدم ميل العرب إلى التعقيدات الكثيرة التي قد تفرضها الفلسفة والعلوم.
تمجيد الشعر والشعراء ظهر أيضاً لأسباب أهمها حاجة القبيلة إلى صوت سياسي تتداول القبائل العربية أشعاره، مما يسهم في حماية القبيلة من الأخطار المستمرة والمحتملة عبر إرهاب العدو، ومما قد يساعدها في فرض سطوتها ونفوذها عبر سمعة القوة والعظمة حتى لو كانت إسرافاً في المدح، وسواء كان ذلك مدحاً لبطولاتها أو هجاءً لأعدائها أو حماسة لمقاتليها.
أما الخطابة فقد كانت مزيجاً بين هذا وذاك، وكانت تختفي ثم تعود للصعود سواء في عصر ما قبل أو بعد الإسلام، غير أن الصوت الغنائي للقوافي والأوزان ظل طاغياً حتى على الخطابة، لتظهر تساؤلات قس بن ساعدة وكأنها أغنية لا تبحث عن جواب. ورغم أن الثقافة العربية لم تخل طوال تاريخها من النقاشات والتروي في التفكير ومن النقاشات الوجودية وخاصة في الأسواق وعلى رأسها سوق عكاظ الفارق تاريخياً، إلا أن قالب الشعر المهيمن حتى على تلك الأسواق، ظل عصياً على أن يكون قالباً مناسباً للنقاش والتواصل والمجادلة البناءة والتي تساعد في الوصول إلى حقائق فكرية وعلمية أكثر تقدماً.
هذه الدوافع القاسية قدمت الفرصة للعرب للتفوق في هذه المجالات الأدبية التي أثرت الثقافة العربية، بل كل الثقافة الإنسانية، بل وكان لها حسناتها الكثيرة أيضاً مثل تعزيز الحاجة للقيم والتراحم والكرم والشرف والذي انعكس أيضا من نفس مكونات طبيعة الجزيرة العربية، غير أن مساوئ الإسراف في القوالب الشعرية والأدبية ظلت عائقاً أمام التقدم العلمي بكافة أشكاله، وظل تصدر الشعراء والأدباء لواجهة المشهد الثقافي هذه الأيام باعتبارهم في مقدمة الأصوات الثقافية مغالطة للقيمة الفعلية للثقافة والتي يجب أن يعلو فيها صوت المثقف الأكثر اطلاعاً وقدرة وتقدماً وبعداً عن الإفراط في الغناء وفي حب الجماليات، وهو المثقف الأكثر واستعداداً للتعبير عن الحقائق المجردة دون محسنات.
هذه الثقافة التي تعلي من شأن الغناء والجمال على حساب التروي والتحليل والحكمة في التعامل مع الحقائق، تعكس نفس مساوئ الشعوبية والتي تعبر عن النظرة قصيرة المدى وعن ضيق الأفق والانفصال عن الواقع وادعاء المثاليات المطلقة وتوهم الأمجاد الزائفة، وهي نفس الشعوبية التي أعلت من شأن جمال عبدالناصر ومعمر القذافي وصدام حسين رغم أنهم تسببوا في تهاوي أوطانهم، فالتروي والحكمة حتى في المديح تساعدنا لنعرف أنفسنا أكثر ولنحافظ على مكتسباتنا ولنصبح أفضل بشكل فعلي بعيدا عن الشعارات الجوفاء.
نحن اليوم في عصر الأبحاث العلمية والترجمة أو القدرة على تعلم اللغات العالمية وعصر المهارات المهنية في كافة المجالات، إنه عصر الانكشاف والعالم المفتوح والذي أزاحت فيه المؤسسات الإعلامية بكافة أشكالها دور شاعر القبيلة، إنه ليس عصر أحمد فارس الشدياق وهو يسترضي الغرب ويرسل القصائد العربية إلى ملوكها ويغني لنابليون (للويس نابليون حق السؤدد والملك إذا هو في المعالي أوحد) دون أن يستجيب أو يفهمه أحد.
رغم الكثير من الشعوبية ومن بقايا الغناء الخطابي ذي الصوت الأوحد، إلا أن حركة التاريخ أقوى، وسوف تستمر المصادمة مع الذات المفرطة في تعاليها وغربتها وماضويتها حتى يهيمن التروي على الفكر العربي بالتقادم بعد أن يصبح انعكاساً واضحاً إلى الحاجة للفهم والاستقرار والتقدم.