مأمون كيوان 

ثمة محاولات أكاديمية إسرائيلية، منخفضة الصوت ومحدودة الرواج، ترمي إلى عقلنة الفكر السياسي الإسرائيلي السائد وتخليصه من رزمة خرافات، إلا أنها محاولات يائسة تشبه حراثة البحر

تتكون بنية الديمغرافيا الإسرائيلية من خليط من الجماعات البشرية، بدأت غالبيتها، وعلى نحو خاص اليهودية منها، علاقتها مع الجغرافيا الفلسطينية من نقطة الصفر. وذلك على خلفية تبنيهم خرافة تفيد أن «فلسطين أرض بلا شعب، واليهود شعب بلا أرض» إلى جانب خرافات ومزاعم أخرى، منها خوضهم حروبا مقدسة كان أولها عام 1948 التي أطلقوا عليها اسم حرب «الاستقلال»، والثانية عام 1967 وأطلقوا عليها اسم حرب «التحرير». 
ومقابل الذين أُطلق عليهم اسم جيل «الرواد» و«المؤسسين» تمتع المستوطنون في الضفة الغربية والقدس بمزايا كبيرة لكونهم حماة ومؤشر استمرارية نجاح عملية الاستيطان وجدوى الاحتلال على الأصعدة الأمنية والاقتصادية والديمغرافية والسياسية.
ومؤخراً، أشار تقرير لحركة «السلام الآن» الإسرائيلية إلى أن البناء الفعلي في المستوطنات شهد في عام 2016، ارتفاعا بنسبة 34% مقارنة مع عام 2015. وحسب تصريحات وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، فإن النصف الأول من هذا العام شهد قفزة غير مسبوقة في سبيل تعزيز الاستيطان.
وفي السياق نفسه تباهى وزراء في الحكومة الإسرائيلية، بحجم البناء الاستيطاني في ظل حكومتهم الحالية بالذات، إن كان على مستوى البناء الفعلي الجاري، أو على مستوى المخططات المستقبلية، ستدخل إلى حيز التنفيذ من حيث التخطيط في الفترة القريبة جدا، ومن بينها مخطط لبناء 67 ألف بيت استيطاني في كافة أنحاء الضفة المحتلة، إضافة إلى مخطط لبناء 15 ألف بيت استيطاني في القدس المحتلة منذ عام 1967، من بينها 10 آلاف بيت على أراضي مطار قلنديا.
وكان نتانياهو قد قال في «حفل» أقامه مجلس المستوطنات، في قاعة المسرح في الكنيست: «يشرفني أن أكون رئيس الوزراء الأول بعد عشرات السنين، الذي يبني بلدة جديدة في يهودا والسامرة. وأؤكد لكم أنه لا أحد كانت له مساع أكبر من المساعي التي أبذلها للقيام بذلك». إلا أن كل هذا لم يقنع قادة المستوطنين، الذين هاجموا الحكومة ورئيسها، بادعاء أنهم لا يطرحون الحقيقة، وأن حجم البناء الفعلي هو أقل بكثير. 
وفي اتجاه آخر، وخلافاً لما تؤمن به غالبية الإسرائيليين، تشكل المستوطنات «عبئاً أمنياً ثقيلاً على دولة إسرائيل»!. وهذه النتيجة كانت ثمرة بحث غير مسبوق نشره في إسرائيل وأنجزه، تزامناً مع الذكرى الخمسين لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، مركز «مولاد - لتجديد الديمقراطية» الإسرائيلي.
لقد صدر هذا البحث، في بداية يونيو 2017، في تقرير تحت عنوان «الأمن القومي والمستوطنات»، ونقضت نتائج البحث الفكرة السائدة في المجتمع الإسرائيلي من أن المستوطنات اليهودية في المناطق الفلسطينية «تسهم في تعزيز الأمن القومي الإسرائيلي». 
وقد حظيت «الخرافة» ـ كما يسميها التقرير ـ القائلة بأن المستوطنات تشكل السترة الواقية التي تحمي غوش دان (في وسط إسرائيل) بانتشار واسع ورواج كبير بين الجمهور الإسرائيلي عامة، حتى إن أكثر من نصف الإسرائيليين يعتقدون بأن للاستيطان في ما وراء الخط الأخضر قيمة أمنيّة هامّة. غير أن هذا التصور ناتج عن خلط خاطئ لاثنين، منفصلين، من مقوّمات الوجود الإسرائيلي في المناطق (الفلسطينية): الوجود العسكري والوجود المدني. ولدى مؤيدي الاستيطان والمستوطنات مصلحة واضحة في طمس إخفاء هذا التمييز بين نوعي الوجود المذكورين، غير أنه بدون هذا التمييز يستحيل إجراء أي نقاش أو بحث جدي حول الدلالات والإسقاطات الأمنية للوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية وحول إسقاطات تكريس هذا الوجود (بضم الضفة الغربية) أو إنهائه (سواء بانسحاب أحادي الجانب أو ضمن اتفاق ثنائي). 
ويثبت البحث الجديد أن هذا الوجود المدني (أي: الاستيطان والمستوطنات والمستوطنين) ليس أنه لا يسهم في تعزيز الأمن، ولا في أي شكل من الأشكال، فقط، وإنما يشكل عبئا أمنيا ثقيلا على دولة إسرائيل.
وحسب تقرير مولاد ثمة إجماع شبه كلّي وتام بين العسكريين الإسرائيليين، وخاصة من قيادات الصفين الأول والثاني، على أنه: حتى لو كانت فكرة قيمة وأهمية المستوطنات للأمن القومي قد حظيت باهتمام وتأييد كبيرين في السابق، إلا أن هذه الفكرة لم تعد نافذة اليوم، بل فقدت كل صحتها وأهميتها. 
وأكد البحث أن الغالبية الساحقة من القوات المنتشرة في الضفة الغربية لا تعمل في مجال إحباط العمليات الإرهابية التي تستهدف مواطنين في داخل إسرائيل، وإنما في الدفاع عن المستوطنين وحماية مستوطناتهم. وطبقا للتقديرات، فإن 80% من قوات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية تعمل في مجال حراسة المستوطنات وحمايتها، بينما الـ20% المتبقية فقط هي التي تتكفل بمهمات الدفاع عن دولة إسرائيل ومواطنيها في حدود 1967.
وأيضاً، وفي ذكرى مرور خمسين عاماً على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، أصدر مركز أدفا ـ معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل تقريراً تحت عنوان الاحتلال: مَن يدفع الثمن؟ أعده الباحثان شلومو سفيرسكي ونوغا دغان ـ بوزاغلو، اللذان أكدا على أن نظرة الجمهور الإسرائيلي إلى الاحتلال باعتباره قضية أمنية وسياسية، فحسب، ولا علاقة له بالمسألة الاقتصادية ـ الاجتماعية، هي نظرة خاطئة، لأن «صيانة الاحتلال» مكلفة جداً، تمسّ بالنمو الاقتصادي، بقدرة الدولة على رصد الموارد والاستثمارات لتطوير الضواحي والمناطق النائية، كما يحدّ من قدرتها على رفع وتحسين مستوى حياة مجمل المواطنين في الدولة. وأن الاحتلال يعود بالضرر على الاستقرار الاقتصادي في إسرائيل.
إجمالاً، ثمة محاولات أكاديمية إسرائيلية، منخفضة الصوت ومحدودة الرواج، ترمي إلى عقلنة الفكر السياسي الإسرائيلي السائد وتخليصه من رزمة خرافات، إلا أنها محاولات يائسة تشبه حراثة البحر، ولا تعكس وجود مؤشرات على انقلابات دراماتيكية مُحتملة في منظومة التفكير السياسي الإسرائيلي. بل تعكس أحياناً نمطاً من التذاكي والتعمية المقصودة.