نجاة عبد النعيم

جاء احتفال فرنسا هذا العام بعيدها الوطني الذى يحى ذكرى ثورة 1789، معبرا عن سياسة جديدة تنأى بفرنسا عن “القطيعة” وتنفتح بها على العالم الخارجى فى اطار براجماتية ناعمة ومحاولة لاسترداد دورها الريادى الذى يليق بمكانتها ضمن الكبار على الساحة الدولية، وهى السياسة التى نلمحها حاليا منذ وصول الرئيس الفرنسى الشاب ايمانويل ماكرون الى قصر الاليزيه..

حيث طموحه لتهدئة الأجواء بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين خاصة بعد قمة العشرين التى شابتها خلافات حادة فى وجهات النظر بين واشنطن وبروكسل وبرلين إثر إصرار الولايات المتحدة على موقفها من اتفاقية باريس للمناخ وانسحابها منها واتباعها لسياسات مناخية تتماشى مع مصالحها الخاصة. وبالرغم من الهجوم الذى شنه ترامب فى الأيام القليلة الماضية بسبب الخلاف حول الاتفاقية العالمية للمناخ، والتقليل من شان فرنسا والاتحاد الأوربى برمته فإن ماكرون اتبع سياسية دبلوماسية دعوه لترامب وزوجته ليكونا ضيفى شرف فى الاحتفالات الضخمة التى تقيمها البلاد سنويا للعيد الوطني, وتخصص لها ميزانيات ضخمة ليس فقد للاستعراضات العسكرية انما ايضا للألعاب النارية والاحتفالات الموسيقية.

والواقع ان هذه الدعوة بعثت برسائل متعددة فهي تفتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية الفرنسية ـ الامريكية اضافة الي تأكيد سياسة خارجية جديدة تعلن انضمام فرنسا الي سياسة الحليف الامريكي فيما يخص سوريا والعراق وليبيا واستراتيجية مكافحة الارهاب!.

ومن هذا المنطلق كان لحضور ترامب وزوجته العرض العسكري الذي أقيم بالشانزليزيه بباريس احتفالا بعيد رنسا الوطني دويا شديدا, وأولته فرنسا اهتماما خاصا ببرنامج ثقافي ترفيهي تخلله عشاء فاخر بأحد مطاعم برج ايفل تأكيدا علي مكانة باريس السياحية

وهو ما ركز عليه ترامب في كلمته بالمؤتمر الصحفي في الاليزيه بعد اجتماع القمة بين الرئيسين, حيث أبدى ترامب اعجابه الشديد بفرنسا منوها إلى حالة وفاق وامتنان تنم عن صداقة شخصية, بعكس ما كانت عليه العلاقات الامريكية ــ الفرنسية في عهد الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا اولاند والتي كان يشوبها الفتور .

وهنا نشير إلى أن ماكرون لا يريد «قطيعة» مع الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب ويتخذ موقفا مناهضا لسياسات عزلها التي يلوح بها الاتحاد الأوروبي وبرلين علي وجه الخصوص, وهو ما أكدت عليه المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل التي كانت في باريس يوم وصول الرئيس الامريكي ولم تحرص علي لقاءه.

وقد اظهر ماكرون على عكس أقرانه الأوروبيين تعامل مختلف مع الرئيس الأمريكي خلال قمة مجموعة العشرين ولم يتوقف عن مرافقته, وذلك خلافا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي لم تتردد في مهاجمته ونقد سياساته كلما سنحت لها الفرصة.

وكان الرئيس ماكرون قد أشار الي ان احتفال هذا العام ليس فقط بالعيد الوطني إنما بالذكرى المئوية لتدخل قوات الولايات المتحدة إلى جانب فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى.

وكانت جلسة العمل الثنائية قد استعرضت العديد من القضايا. وبالاخص القضايا التجارية.

واوضح ماكرون ان هناك ضرورة للعمل المشترك لاتخاذ تدابير رقابة فعالة ضد الإغراق في جميع القطاعات التي تحدث فيها مثل هذه الممارسات، واشار الي جزئية تبادل المعلومات التي تسمح للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية باتخاذ التدابير اللازمة للحماية،في إطار التجارة الحرة العادلة.

وأشار الرئيس الفرنسي الي ان المباحثات التي دارت بينه وبين نظيره الامريكي أسفرت عن أن الطرفين على وفاق تام فيما يخص الحرب ضد الإرهاب،وأن هناك تصميما تاما على اتخاذ جميع التدابير للقضاء عليه.

وقال ماكرون حول الوضع في العراق وسوريا أنهما اتفقا مرة أخرى على مواصلة العمل المشترك، ولا سيما من أجل إجراء جميع المبادرات الدبلوماسية التي من شأنها بناء خارطة طريق لمرحلة ما بعد الحرب. وخاصة في سوريا.

وقد أتفقت وجهات نظر ترامب وماكرون كذلك فيما يخص الوضع في ليبيا حيث، قال ماكرون أن لدينا رؤية مشتركة ومتسقة للغاية فيما يخص الوضع هناك وسوف نقوم بالعمل بشكل واضح لمحاربة جميع أشكال زعزعة الاستقرار ومكافحة الإرهاب.

واضاف ماكرون أخيرا، فيما يخص المناخ نعرف خلافاتنا،وقد عبرنا عنها عدة مرات.وأعتقد أنه من المهم التواصل لمعرفة كيفية المضي قدما في هذا الشأن.

وكانت زيارة ترامب لباريس قد شهدت إجراءات أمنية مشددة من الجانبين، فالرئيس الأمريكي ترامب اصطحب معه ما يقرب من ألف عنصر أمني أمريكي مزودين بكافة الأجهزة والمعدات اللازمة لحماية الرئيس من عربات وأسلحة وأجهزة مضادة للتجسس والتصنت وأجهزة تشويش على تفعيل القنابل عن بعد ومضادات للطائرات الصغيرة بدون طيار. ويضاف إلى ذلك نشر السلطات الفرنسية أحد عشر ألف شرطي وجنود من الحرس الوطني لتأمين الاحتفالات من أية أعمال إرهابية مفترضة.

اما المراقبون فيرون ان سياسة ماكرون تجاه الولايات المتحدة الامريكية لم يتمخض عنها تغير في موقف ترامب تجاه مصالحها التي تتعارض مع اتفاقية المناخ من منطلق ان مواقف وسياسات الرئيس الأمريكي البراغماتية التي لا تهدف إلا إلى شيء واحد ألا وهو تحقيق المصلحة العليا لبلاده بدون مواربة أو حلول وسط مع الشركاء والأصدقاء.

خاصة وان الرئيس الامريكي الجديد رجل اعمال ولا يفهم إلا لغة المصالح وتبادل المنافع حيث نعته المحللون بأنه شخصية متقلبة تغير مواقفها دون تردد كما أنه لا يميل إلى الاعتراف بالثوابت التي تحكم العلاقات الدولية، لكنه ابدي عن شديد الامتنان والإعجاب بفرنسا ورئيسها واثني في كلمته بالمؤتمر الصحفي علي سياسة الرئيس الفرنسي الجديد كما انه أبدي إعجابه بالعرض وسعادة بحضور الاحتفالات ووجه في لفتة ودية الشكر للرئيس الفرنسي على دعوته واستقباله الحار في تغريدة على حسابه بموقع تويتر.

ويري بعض المحللين انه لا جدال في إن العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب أصبحت تمر بصعوبات واضحة في الفترة الأخيرة غير أن واشنطن تظل حليفا لا يستغنى عنه لأوروبا وخاصة لفرنسا، فالملفات التي يجب إيجاد توافق غربي حولها كثيرة .

وقد لا نغفل الإشارة الي ان زيارة ترامب تأتي بعد شهر ونصف الشهر من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى فرنسا التي شابها بعض الفتور على خلفية الاتهامات بمحاولة التدخل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية على غرار نفس الاتهامات بالتدخل في الانتخابات الامريكية..

هاتان الزيارتان المتتاليتان تعطيان انطباعا اتجاه السياسة الفرنسية الخارجية انها تسعى لبناء علاقات شخصية أكثر من بناء خط سياسي واضح لعلاقات قائمة على احترام متبادل ومصالح مشتركة قوية.

والجدير بالذكر ان زيارة ترامب لفرنسا كانت محل جدل وانتقادات شديدة ولم تكن موضع الترحيب والتقدير من بعض الرموز السياسية خاصة من اليسار والخضر،فمن ناحيته جان لوك-ميلنشون زعيم حزب “فرنسا الأبية” صرح قائلا:ترامب لا اهلًا ولا سهلا،اما يانيك جادو، المدافع عن البيئة وعضو البرلمان الأوروبي، اعتبرها أنها «مكافأة رمزية رخيصة» للرئيس الأمريكي الذي «ضرب بمصالح البشرية وبحالة المناخ عرض الحائط».