تيم أرانغو

إذا سرت في أي من أسواق العراق، ستجد الأرفف متخمة بسلع إيرانية. وإذا شاهدت التلفزيون، ستجد قناة تلو الأخرى تبث برامج متعاطفة مع إيران. وإذا ما شاهدت أعمال تشييد لبناية جديدة، فإن الاحتمال الأكبر أن يكون الإسمنت والطوب من إيران. وعندما يشعرون بالملل، يلجأ بعض الشباب العراقي للمخدرات المحتمل أن يكون قد جرى تهريبها عبر الحدود الإيرانية التي تتسم بضعف الرقابة عليها.

إضافة إلى ذلك، تعكف ميليشيات تحظى برعاية طهران على بناء ممر لنقل رجال وعتاد إلى قوات تعمل بالوكالة داخل سوريا ولبنان. وداخل أروقة السلطة في بغداد، يحظى حتى كبار مسؤولي الحكومة العراقية ووزرائها بمباركة القيادة الإيرانية.

عندما غزت الولايات المتحدة العراق قبل 14 عاماً لإسقاط صدام حسين، نظرت إلى البلاد باعتبارها حجر زاوية محتملاً لشرق أوسط ديمقراطي صديق للغرب. وبالفعل، جرت التضحية بكثير من الدماء وأموال هائلة (قُتل نحو 4500 أميركي، وأنفق أكثر من تريليون دولار) من أجل هذا الهدف.

منذ اليوم الأول، رأت إيران الصورة على نحو مختلف: فرصة لتحويل العراق إلى دولة تابعة. ويأتي ذلك رغم أن العراق يشكل عدواً عتيداً سابقاً، خاضت إيران ضده حرباً في ثمانينات القرن الماضي بلغت درجة من الوحشية دفعت مؤرخين لعقد مقارنات بينها وبين الحرب العالمية الأولى. ولكن إيران رأت أنها إذا ما نجحت في مسعاها، فإن العراق لن يشكل مجدداً أبداً مصدر تهديد لها، بل وقد يمثّل نقطة انطلاق لنشر النفوذ الإيراني بمختلف أرجاء المنطقة.

في هذا الإطار، كان الفوز من نصيب إيران، بينما منيت الولايات المتحدة بالهزيمة. الملاحظ أنه على امتداد الأعوام الثلاثة الماضية، ركّزت واشنطن اهتمامها على المعارك الدائرة ضد تنظيم داعش داخل العراق، وأعادت أكثر من 5 آلاف جندي إلى البلاد، وعاونت في طرد المسلحين من ثاني أكبر مدن العراق: الموصل.

أما إيران، فإن أعينها لم تتحول بعيداً عن هدفها المنشود قط: الهيمنة على جارتها على نحو شامل يجعل من المستحيل تحوّل العراق مجدداً ذات يوم إلى مصدر تهديد عسكري لها، واستغلال البلاد بفاعلية كممر لوصول طهران إلى البحر المتوسط.

من جانبه، قال هوشيار زيباري، الذي أطيح به العام الماضي من منصب وزير المال: «تتمتع إيران بنفوذ مهيمن، فهي تتسيد الساحة». يذكر أن زيباري ادّعى أن السبب وراء الإطاحة به من منصبه تشكك طهران في صلاته بالولايات المتحدة.

وجراء الهيمنة الإيرانية على العراق، تفاقمت التوترات الطائفية بمختلف أرجاء المنطقة. ومع ذلك، يبقى العراق مجرد جزء من المشروع الإيراني التوسعي، ذلك أن طهران عمدت في الوقت ذاته إلى استغلال أدوات قوتها الناعمة والخشنة لبسط نفوذها داخل لبنان وسوريا واليمن وأفغانستان، وفي مختلف أرجاء المنطقة. ومعروف أن إيران دولة شيعية، كما يغلب الشيعة على سكان العراق الذي خضع لحكم نخبة تنتمي إلى الطائفة السنية قبل الغزو الأميركي.

ونفوذ إيران في العراق لا يسير فقط في منحى تصاعدي اليوم، بل هو متنوع يشمل قطاعات مختلفة، عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية. وعند بعض النقاط الحدودية الواقعة إلى الجنوب، السيادة العراقية غير مطبقة عملياً؛ تتنقل حافلات مليئة بمجندين شباب في صفوف ميليشيات عبر الحدود العراقية دون فحص يذكر، ويتلقى هؤلاء المجندون التدريب، ثم يجري نقلهم إلى سوريا، حيث يقاتلون تحت قيادة ضباط إيرانيين دفاعاً عن الرئيس السوري بشار الأسد.

وعبر الحدود كذلك، تنتقل شاحنات محملة بمختلف السلع الإيرانية، من أغذية وأجهزة منزلية بل ومخدرات، إلى داخل السوق العراقية التي اكتسبت أهمية حيوية بالنسبة إلى طهران.

والملاحظ أنه في المجالات التجارية كافة، تعمل إيران على دفع كفّة الميزان للميل إلى صالحها، بل ووصل الأمر حد اقتحامها مجال النظافة وجمع القمامة من شوارع النجف، بعدما منح المجلس البلدي شركة إيرانية خاصة عقداً يخول لها ذلك.

وسياسياً، تحظى إيران بعدد كبير من الحلفاء داخل البرلمان العراقي بمقدورهم معاونتها على ضمان الوصول إلى أهدافها. ونظراً لما تتمتع به من نفوذ بالنسبة إلى اختيار وزير الداخلية، من خلال ميليشيا وجماعة سياسية أسسها الإيرانيون في ثمانينات القرن الماضي لمعارضة صدام حسين، باتت لإيران سيطرة كبيرة على الوزارة وقوات الشرطة الاتحادية (الفيدرالية) في البلاد.

إضافة إلى ذلك، مرر البرلمان العام الماضي قانوناً جعل من مجموعة من الميليشيات الشيعية عنصراً ثابتاً في قوات الأمن العراقية؛ ويضمن ذلك تلقي هذه الميليشيات تمويلاً من الحكومة العراقية، في الوقت الذي تبقى فيه لإيران سيطرة فاعلة على بعض أقوى وحداتها.

اليوم، ومع اقتراب انطلاق الانتخابات البرلمانية في البلاد، شرعت الميليشيات الشيعية في تنظيم نفسها سياسياً سعياً وراء فوز في البرلمان يضمن لإيران هيمنة أكبر على المشهد السياسي العراقي.

ولم يكن الأثير باستثناء على هذا الصعيد، فقد جرى إنشاء قنوات تلفزيونية جديدة بأموال إيرانية وعلى صلة بميليشيات شيعية لتقديم تغطية إخبارية تصوّر إيران باعتبارها حامية العراق، بينما تبدو الولايات المتحدة المتطفل الشرير.

في المقابل، وفي محاولة لاحتواء طهران، ألمحت واشنطن إلى عزمها على الإبقاء على قوات لها داخل العراق في أعقاب المعارك الدائرة ضد «داعش». ومن ناحيتهم، عمل دبلوماسيون أميركيون على تأكيد دور قوات الأمن الحكومية في القتال، وتعزيز موقف رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي بدا أكثر انفتاحاً تجاه الولايات المتحدة من إيران.

ومع ذلك، فإنه في أعقاب الانسحاب المفاجئ للقوات الأميركية عام 2011، تبقى ثمة شكوك حول مدى اتساق السياسة الأميركية، مما يعد بمثابة فشل ذريع للسياسة الخارجية الأميركية، تتشارك في المسؤولية عنها 3 إدارات.

أما إيران، فإنها عمدت إلى ممارسة لعبة أعمق، مع تعمدها استثمار علاقاتها مع الغالبية الشيعية في العراق وشبكة أوسع بكثير من الحلفاء المحليين، في خضم سعيها إلى طرح نفسها باعتبارها الحامي الحقيقي الوحيد للعراق.



الطريق إلى البحر

ربما لا يلفت مشروع طهران الكبير في شرق العراق اهتمام الكثيرين، فهو عبارة عن طريق رملي يمتد لمسافة 15 ميلاً، ويغطيه الحصى في الجزء الأكبر منه. ويشق الطريق الصحراء قرب الحدود داخل محافظة ديالى.

إلا أنه في حقيقته يشكّل هذا الطريق ممراً جديداً مهماً لطهران داخل العراق للوصول إلى سوريا، ينقل رجال الميليشيات الشيعية والوفود الإيرانية والسلع التجارية والإمدادات العسكرية.

ويشكل هذا الطريق جزءاً من طموح إيران الأكبر: استغلال الفوضى التي تضرب المنطقة لنشر نفوذها عبر العراق وما وراءه. ويرى محللون أن طهران بمقدورها في نهاية الأمر استغلال هذا الممر لنقل أسلحة وإمدادات لعملائها في سوريا، حيث تعد إيران من الجهات الداعمة المهمة للأسد، وإلى لبنان وحليفها هناك، «حزب الله».

من ناحية أخرى، فإنه على الحدود الواقعة إلى الشرق، ثمة نقطة عبور جديدة يجري بناؤها وتأمينها من جانب طهران. وتتضمن حركة المرور اليومية عبر نقطة التفتيش تلك ما يصل إلى 200 شاحنة إيرانية محملة بالفواكه ولبن الزبادي والإسمنت والطوب، متجهة إلى داخل العراق. وداخل مكاتب ضباط حرس الحدود العراقيين، تنتمي المشروبات والحلوى التي يجري تقديمها للضيوف إلى إيران. في المقابل، لا تتحرك شاحنات محملة بسلع في الاتجاه المعاكس.

وخلال مقابلة أجريت معه داخل مكتبه، قال وحيد غاتشي، المسؤول الإيراني عن نقطة العبور: «لا يملك العراق أي شيء لتقديمه إلى إيران، عدا النفط. يعتمد العراق على إيران في كل شيء».

أيضاً، تعتبر تلك نقطة عبور بالغة الأهمية لقياديين عسكريين إيرانيين يرسلون من خلالها أسلحة وإمدادات أخرى لجماعات تقاتل بالوكالة ضد «داعش» في العراق. ويذكر أنه في أعقاب اكتساح «داعش» مناطق عبر ديالى ومناطق مجاورة عام 2014، جعلت طهران من مسألة تطهير المحافظة، التي يشكل سكانها مزيجاً من السنة والشيعة، أولوية بالنسبة لها. وبالفعل، جهّزت إيران قوة ضخمة من ميليشيات شيعية، تلقى كثيرون من أفرادها تدريبهم داخل إيران، ويتولى ضباط إيرانيون تقديم المشورة لهم على الأرض. وبعد إحراز نصر سريع، شرع الإيرانيون والميليشيات الحليفة لهم في العمل على تحقيق هدفهم التالي في المنطقة: تهميش الأقلية السنية هناك، وتأمين ممر إلى سوريا. والملاحظ أن طهران حاربت بقوة للإبقاء على حليفها الأسد في السلطة، من أجل الاحتفاظ بممر بري واصل بينها وبين أهم الجماعات التابعة لها في المنطقة، أي «حزب الله»، وهو قوة عسكرية وسياسية تهيمن على لبنان، وتشكل تهديداً لإسرائيل.

وبمجرد كلمة صدرت عن الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» صاحب النفوذ القوي، تدفق جيش من المقاولين العراقيين، واصطفت الشاحنات للمعاونة في بناء الطريق دونما مقابل. وجرى تكليف ميليشيات موالية لإيران بتأمين الموقع.

جدير بالذكر أن عدي الخدران، العمدة الشيعي لضاحية خالص في ديالى، عضو بمنظمة بدر، وهي حزب سياسي وميليشيا عراقية أسستها طهران في ثمانينات القرن الماضي لمحاربة صدام حسين في أثناء الحرب الإيرانية - العراقية.

وفي ظهيرة أحد الأيام في مطلع العام، نشر الخدران على مكتبه خريطة كبيرة، وتحدث بزهو حول كيف أنه عاون في بناء الطريق الذي قال إن أمر بنائه صدر من جانب الجنرال سليماني. يذكر أن «فيلق القدس»، الذي يرأسه سليماني، يعتبر الذراع المسؤولة عن العمليات الأجنبية داخل الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. وقد تولى سليماني سراً توجيه السياسة الإيرانية داخل العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، ويعد مسؤولاً عن مقتل مئات الجنود الأميركيين، في هجمات شنتها ميليشيات تحت سيطرته.

من جانبه، قال الخدران: «أحب قاسم سليماني أكثر من حبي لأبنائي»، وأشار إلى أن الطريق الجديد سيشكل في نهاية الأمر طريقاً مختصراً للزوّار القادمين من إيران في اتجاه سامراء العراقية، التي تضم ضريحاً مقدساً عند الشيعة.

إلا أنه أقر كذلك بأن ثمة أهمية استراتيجية أكبر للطريق الجديد، باعتباره جزءاً من ممر تسيطر عليه جماعات موالية لإيران، ويمر عبر وسط العراق وشماله. من جانبه، قال علي الديني، الرئيس السني للمجلس المحلي في ديالى: «تعتبر ديالى الممر إلى سوريا ولبنان، مما يحمل أهمية كبيرة لإيران».

وعلى مسافة أقرب من سوريا، تحركت ميليشيات موالية لإيران إلى غرب الموصل، مع استمرار المعارك ضد «داعش» هناك على امتداد الشهور الأخيرة. وتمكنت هذه الميليشيات من السيطرة على مدينة البعاج، ثم تحركت باتجاه الحدود السورية، مما يضع إيران على مقربة من إنجاز ممرها المنشود.

إلى الشرق، في ديالى، اشتكى الديني من أنه وقف بلا حول ولا قوة في مواجهة ما وصفه بالهيمنة الإيرانية على المحافظة، وقال إنه في طريقه إلى مكتبه يضطر إلى المرور عبر عدد من الملصقات التي تحمل صورة آية الله الخميني، خارج مبنى المجلس المحلي.

من ناحية أخرى، تعرضت الميليشيات الإيرانية داخل المحافظة لاتهامات بالتورط في أعمال تطهير طائفي واسعة النطاق، مما دفع السنة للفرار من ديارهم، وذلك بهدف ترسيخ الهيمنة الشيعية على المحافظة، وبناء منطقة عازلة على الحدود.

يذكر أن «داعش» تعرض للهزيمة داخل ديالى قبل أكثر من عامين. ومع هذا، لا تزال آلاف الأسر السنية تعيش في مخيمات رديئة لعجزها عن العودة إلى منازلها.

وقد تحوّلت ديالى اليوم إلى نموذج يكشف نظرة إيران إلى الصعود الشيعي باعتباره عنصراً محورياً للوصول إلى أهدافها الجيوسياسية. وفي هذا الصدد، أعربت نجاة الطائي، وهي عضو في المجلس المحلي ومن الأصوات السنيّة الناقدة لإيران، عن اعتقادها أن «إيران أذكى من أميركا، فقد تمكنت من تحقيق أهدافها على الأرض. أما أميركا، ففشلت في حماية العراق، واكتفت بإسقاط النظام وتسليم البلاد إلى إيران». واتهمت الطائي طهران بكونها الجهة المحرّضة وراء كثير من محاولات الاغتيال التي تعرضت لها.



«بيزنس» النفوذ

الواضح أن حياة الجنرال سليماني، وعدد من القيادات الرفيعة الأخرى داخل إيران، تشكلت بناءً على الحرب الطويلة ضد العراق التي اشتعلت في ثمانينات القرن الـ20. وقد خلّفت هذه الحرب وراءها مئات الآلاف من القتلى في الجانبين، وقضى الجنرال سليماني فترة طويلة من الحرب على الجبهة، وترقى بسرعة مع سقوط كثير من الضباط قتلى.

وفي هذا الصدد، قال علي فائز، المحلل المعني بإيران لدى «مجموعة الأزمات الدولية» المعنية بتسوية الصراعات: «كانت الحرب الإيرانية - العراقية التجربة التي شكّلت مسيرة جميع القيادات الإيرانية الحالية، بدءاً بسليماني مروراً بجميع من هم أقل منه رتبة؛ كانت هذه الحرب لحظة مفترق الطرق في حياتهم».

يُذكر أن النزاع الحدودي حول ممر شط العرب المائي، الذي كان أحد الأسباب وراء اندلاع الحرب، لم يحسم بعد. والملاحظ أن إرث وحشية هذه الحرب ترك بصمته على الحكومة الإيرانية منذ ذلك الحين، بدءاً من السعي وراء امتلاك أسلحة نووية، وصولاً إلى السياسة الإيرانية في العراق.

ومن ناحيته، قال موفق الربيعي، المشرّع ومستشار الأمن الوطني السابق في العراق: «تعد تلك بمثابة ندبة أزلية في عقولهم، فهم مصابون دوماً بوسواس البعثية وصدام والحرب الإيرانية - العراقية».

ويرى محللون أن الندبات التي خلّفتها الحرب تشكّل الدافع الأكبر وراء الطموحات الإيرانية للهيمنة على العراق. وداخل جنوب العراق على وجه الخصوص، الذي ينتمي غالبية سكانه إلى الشيعة، تنتشر مظاهر النفوذ الإيراني بكل مكان، وتتولى ميليشيات مدعومة من طهران الدفاع عن الأضرحة الشيعية داخل النجف وكربلاء، التي تعد محركاً رئيسياً وراء حركة التجارة والسياحة. وداخل المجالس المحلية، تملك أحزاب سياسية تدعمها طهران غالبية قوية، ودائماً ما تعمد المواد الدعائية خلال الانتخابات إلى التأكيد على الصلات بالأئمة الشيعة ورجال الدين الإيرانيين.

من جهته، قال مصدق العبادي، وهو رجل أعمال من ضواحي النجف، إنه لو كانت الحكومة العراقية أقوى «لتمكنا من فتح مصانعنا، بدل الذهاب إلى إيران»، وأضاف أن مخزنه مكدّس بسلع مستوردة من إيران لأن حكومته لم تفعل شيئاً لتشجيع القطاع الخاص، أو فرض السيطرة على الحدود، أو تحصيل الرسوم الجمركية.

ومعروف أن النجف تجتذب ملايين الزوار الشيعة الإيرانيين سنوياً، الذين يحرصون على زيارة مقامات دينية في المدينة. كما تدفق عليها عمال بناء إيرانيون (ينظر مسؤولون عراقيون إلى كثيرين منهم باعتبارهم جواسيس) للمشاركة في ترميم أضرحة وبناء فنادق.

وأفاد مسؤولون محليون بأنه في محافظة بابل، تولى قادة ميليشيات الإشراف على مشروع حكومي لوضع كاميرات أمنية على امتداد الطرق الاستراتيجية. كان المشروع قد مُنح إلى شركة صينية قبل تدخّل الميليشيات. والآن، جرى تحييد الجيش والشرطة المحلية بعيداً عنه، بحسب ما ذكره مقداد عمران، وهو ضابط في الجيش العراقي في المنطقة.

والملاحظ أن صعود نفوذ إيران في الجنوب العراقي أثار سخط بعضهم، فرغم أن شيعة العراق يشتركون مع إيران في المذهب الديني، فإنهم يتمسكون بهويتهم العراقية والعربية. وعلى سبيل المثال، أكد فاضل البدايري، رجل الدين في إحدى المدارس الدينية في النجف، أن «العراق ينتمي إلى جامعة الدول العربية، وليس إيران. والشيعة غالبية داخل العراق، لكنهم أقلية على مستوى العالم. وما دامت الحكومة الإيرانية مسيطرة على نظيرتها العراقية، فليس أمامنا أمل».

وأوضح مسؤولون عراقيون أنه داخل هذه المنطقة، التي لم تكتوِ قط بالتهديد العسكري لـ«داعش»، يجري التعامل مع المصالح الأمنية الإيرانية في الجزء الأكبر منها من خلال المناورات الاقتصادية، ذلك أن التجارة في الجنوب غالباً ما تتولى إيران تمويلها عبر الائتمانات، وتعرض في الوقت ذاته حوافز على التجار العراقيين لإبقاء أموالهم في بنوك إيرانية.

وتضطلع بنوك بغداد بدور هي الأخرى، باعتبارها الداعم المالي لشركات الواجهة الإيرانية التي تستغلها طهران للحصول على الدولارات التي يمكنها استغلالها فيما بعد للوصول إلى أهدافها الجيوسياسية الأكبر، بحسب ما شرحه انتفاض قنبر، المساعد السابق للسياسي العراقي أحمد الجلبي المتوفى عام 2015، الذي أضاف أن الإيرانيين يأملون بـ«الإبقاء على الفساد داخل العراق».



الذراع الطويلة للميليشيات

على امتداد عقود، عمدت إيران إلى تهريب أسلحة ومواد تدخل في صناعة القنابل عبر الأهوار (المستنقعات الواسعة) الواقعة جنوب العراق. كما تنقل الرجال الشباب ذهاباً وإياباً عبر الحدود، من منزل آمن إلى آخر، مع توجه المجندين إلى إيران للتدريب، ثم عودتهم إلى العراق للقتال. في البداية، كان العدو صدام حسين، ثم أصبح الأميركيين.

اليوم، يعمد عملاء الحرس الثوري الإيراني علانية إلى تجنيد مقاتلين داخل المدن ذات الغالبية الشيعية في جنوب العراق. وبإمكان الحافلات المكدسة بمجندين المرور بسهولة عبر النقاط الحدودية التي يقول مسؤولون إنها تخضع بصورة أساسية لسيطرة طهران، من خلال عملائها على الجانب العراقي، وحرس الحدود الإيرانيين أنفسهم على الجانب الآخر.

وفي حين حشدت إيران ميليشيات للقتال ضد «داعش» في العراق، فإنها أيضاً حشدت شباباً من الشيعة العراقيين للقتال نيابة عنها داخل سوريا.

من ناحية أخرى، فإن إصرار إيران على الدفاع عن المذهب الشيعي دفع البعض للاعتقاد بأن هدفها الأكبر بناء نظام حاكم ديني داخل العراق، على غرار النظام الإيراني ذاته. بيد أن ثمة شعوراً قوياً بأن هذا الأمر لن يفلح داخل العراق لما يضمه هذا البلد من مواطنين سنّة أكثر عدداً بكثير مما عليه الحال في إيران، علاوة على معارضة قيادات دينية في النجف، بينها آية الله علي السيستاني، للنظام الإيراني.

ومع هذا، تعمد إيران إلى اتخاذ خطوات لترجمة القوة العسكرية إلى قوة سياسية، على غرار ما فعلته مع «حزب الله» في لبنان. وقد شرع قادة ميليشيات بالفعل في تنظيم أنفسهم قبل الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها العام المقبل.



الصعود السياسي

عندما تعرّضت مجموعة من القطريين كانوا يصطادون الصقور، بينهم أفراد من الأسرة الحاكمة، للاختطاف عام 2015، أثناء قيامهم برحلة سفاري في صحارى جنوب العراق، لجأت قطر إلى إيران والميليشيات المتحالفة معها، وليس إلى الحكومة المركزية في بغداد. وبالنسبة إلى العبادي، فإن هذا الموقف أظهر على نحو مثير للحرج ضعف حكومته أمام إيران، التي من المعتقد أن ميليشيا «كتائب حزب الله» الموالية لها هي المتورط في الاختطاف.

وفي ظهيرة أحد أيام أبريل (نيسان)، هبطت طائرة تتبع الحكومة القطرية في بغداد، حاملة وفداً من الدبلوماسيين و500 مليون يورو مكدّسة داخل 23 صندوقاً أسود. وسرعان ما أفرج عن الصيادين، وغادروا إلى ديارهم، لكن أموال الفدية لم تذهب إلى رجال الميليشيات المدعومين من طهران الذين اختطفوا القطريين، وإنما انتهى بها الحال داخل خزنة في البنك المركزي في بغداد.

كان العبادي قد أصدر أوامره بمصادرة المال، بعدما انتابه غضب عارم حيال حصول الميليشيات، ومَن خلفهم من مسؤولين إيرانيين وبجماعة «حزب الله»، على مثل هذه الكمية الضخمة من الأموال تحت سمع الحكومة العراقية وبصرها.

داخل العراق، جرى النظر إلى حادث الخطف باعتباره انتهاكاً لسيادة البلاد، ومؤشراً على السيطرة الخانقة التي تفرضها طهران على الدولة العراقية.

اليوم، يجد العبادي نفسه في موقف صعب، فإذا ما اتخذ أي خطوة يمكن النظر إليها باعتبارها تشكل بداية مواجهة مع إيران، أو باعتبارها تقرباً إلى الولايات المتحدة، فإن ذلك قد يلقي بظلال قاتمة على مستقبله السياسي.

وفي هذا الصدد، أعرب عزت الشهبندر، الزعيم العراقي الشيعي البارز الذي عاش في المنفى في إيران خلال فترة حكم صدام حسين، عن اعتقاده أن العبادي «كان أمام خيارين: أن يكون مع الأميركيين أو الإيرانيين. وقد اختار أن يكون مع الأميركيين».

*خدمة «نيويورك تايمز»