يوسف مكي

أغرب ما في المشهد الراهن أن القوى الكبرى التي رفضت تاريخيا النظر لنا باعتبارنا أمة واحدة، تخلت في طرفة عين عن تنظيراتها القديمة، ووضعتنا في كفة واحدة، حين أطلقت تعبير الربيع العربي

مرت أمتنا العربية، منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم، بوضع استثنائي، بدأ مع غزو العراق لدولة الكويت، وتواصل في الخط البياني، عربيا في الاتجاه إلى الأسفل، سقطت معه المبادئ والمؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، ومن ضمنها القانون الدولي ومبادئ هيئة الأمم المتحدة. احتل العراق، وسقطت عاصمة الرشيد في أبريل عام 2003، وشيدت سلطة سياسية جديدة، على مقاس أهداف الاحتلال. 
بات واضحا منذ ذلك الحين، أن شعارات التفتيت التي بدأ التبشير بها، من قبل الدوائر الغربية، أصبحت قيد التنفيذ. ولم تمض سوى سنوات قليلة، إلا والبوابات تفتح على إعصار عات وغاصب، حمل مسمى الربيع العربي، وأكل في طريقه الأخضر واليابس. 
تفسير أسباب هذا الانهيار مهم جدا، لأن الوعي بها هو شرط لازم لتوازنها. وربما تسعفنا العلوم السياسية في تفسير ما جرى، ذلك لأن هذه الأحداث ليست محكومة بقوانين الصدفة، وطبيعي أنه في كل مرحلة تاريخية يطغى نمط من التعامل مع الأزمات الدولية. فما من أزمات تحدث، أو حروب تشن، سواء كانت تقليدية أو غير ذلك، إلا ويقف خلفها هدف سياسي، ومن غير ذلك تغدو عدمية. هكذا كان التاريخ الإنساني دائما وأبدا. 
في الوطن العربي، فقد شمل «الربيع العربي»، عددا من البلدان العربية، لم تسلم من عسكرة حركتها الاحتجاجية سوى تونس ومصر. وهما البلدان العربيان الوحيدان اللذان شهدا انتقالا سلميا في السلطة، لكن الأوضاع مختلفة تماما عندما يتعلق الأمر باليمن وليبيا وسورية، والعراق منذ احتلاله عام 2003.
ورغم ضراوة المعارك التي شهدتها هذه البلدان وقسوتها، والدماء الغزيرة التي سفكت فيها، والدمار الهائل في الإنسان والحجر، وتحول بعضها إلى ما يقترب من الحروب الأهلية، ودخول أطراف دولية عدة على الخط، فإن نتائجها السوقية ظلت معلقة حتى هذه اللحظة. وليس بإمكان أي طرف من أطراف الصراع، الادعاء بأنه حقق نصرا حاسما لصالحه.
والحروب لا تتوقف وفقا لنظرية الصراع وحل الصراع، إلا في حالتين. الأولى، هي هزيمة ماحقة لفريق من المتحاربين، وفرض شروط الاستسلام عليه. والثانية اعتراف كافة الأطراف بعدم قدرتها على تحقيق الحسم بما يخدم مصالحها وأهدافها. وحينها يصاب المتحاربون بالإنهاك، ولا يغدو أمامهم سوى العودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بمكتسبات جزئية، بعد اعترافهم بالعجز، عن تحقيق أهدافهم من خلال فوهات البنادق.
ويبدو أن جميع الفرقاء، في الحروب الأهلية بالوطن العربي، قد أدركوا استحالة حسم الصراع لصالح أي فريق. لكن كيف تتم التسويات. إن سيرورة البحث عن أسلوب لإنهاء الصراع، عن طريق المفاوضات، في ظل الواقع الدولي الراهن، لن تكون ممكنة إلا برعاية مشتركة من صناع القرار الأممي الكبار. ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا وثق المتفاوضون في رعاية أحد أطراف المعادلة الدولية لمصلحتهم. ويقتضي ذلك قناعة الكبار فشل المشروع العسكري لحلفائهم، وأن بالإمكان إيجاد صيغة مقبولة للحل بمعنى آخر، لا يمكن الوصول لحل سلمي لأي نزاع إلا إذا أبدت مختلف أطرافه استعدادها لقبول الحل. ويتحقق ذلك حين يدرك الغرماء، كل من منطق انتمائه، معضلة الموازنة بين ما يتوقون لتحقيقه، نسبة إلى خسارتهم فيما لو أقدم أي منهم نحو المصالحة أو التنازل. والقبول بالحل السياسي يعني أن لا قيمة مطلقة لأي هدف كان. وحين تكون للحرب أهداف وقيم فإنها في العادة تأتي نتيجة تصورات ذاتية. والأهداف المعلنة ليست دوما الأهداف الحقيقية. ويبدو هنا أن ثمة بعض الدوافع الداخلة في اللعبة دون أن يكون الوعي مدركا لها بشكل كاف.
اختفت بخريف الغضب شعارات عربية كبرى سكنت في اليقين زمنا طويلا. فمنذ الاحتلال الأميركي للعراق غاب العمل العربي المشترك، وتراجع الاهتمام بالقضية المركزية للعرب، قضية فلسطين، ومعها اختفت شعارات كبرى، كالوحدة العربية، والتنمية المستقلة ومشاريع النهضة.
وللأسف فإن البديل عن هذه الشعارات هي مشاريع ناكسة، طائفية وجهوية وعشائرية وقبلية، ودينية، شملت مفردات الفيدرالية والقسمة الطائفية، وأمراء الحرب والطوائف. وليس على المرء سوى توجيه النظر للخارطة الراهنة للوطن العربي، ليتأكد من صحة ذلك.
بدا المشهد جملة طلاسم ومجموعة شفرات بحاجة إلى تفكيك وتعليل، مع أن قراءة المشهد باتت واضحة منذ طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة التي سينبثق المشروع من رحمها، وبدا ذلك أمرا واقعا منذ تمت استباحة مدينة بغداد، عاصمة العباسيين، ونهبت متاحفها وحرقت مكاتبها وجامعاتها.
وأغرب ما في المشهد الراهن، أن القوى الكبرى التي رفضت تاريخيا النظر لنا باعتبارنا أمة واحدة، يجمعها تاريخ وجغرافيا مشتركة ولغة واحدة، وصنفت المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط، عالما عربيا، بثقافات وأجناس مختلفة، تخلت في طرفة عين عن تنظيراتها القديمة، ووضعتنا في كفة واحدة، حين أطلقت تعبير الربيع العربي على البلدان التي مرت بها الأحداث الدراماتيكية، لكن لتوازنات القوة أحكامها.
لقد ثبتت الثنائية القطبية، الكيانات الوطنية، التي أقرها مقص المحتل، في اتفاقية سايكس بيكو، وما يماثلها. أما الأحادية القطبية فكانت انفلاتا لمارد الأميركي من عقاله، وبالنسبة لنا نحن العرب، عنت التفتيت ومصادرة الكيانات والهويات الوطنية.
تغيرات كبرى على خارطة صناعة القوة بدأت تعبر عن نفسها بالأعوام الأخيرة. وحين تتغير توازنات القوة فإن ذلك يعبر عن نفسه في مجال السياسة. برز التنين الصيني وعاد الدب القطبي بقوة، وتشكلت منظمات جديدة على أسس سياسية واقتصادية أخذت بالتشكل، بما يشي بانبثاق مرحلة التعددية القطبية، وسوف تترجم حضورها في تسويات تاريخية، سيكون هذا الجزء من العالم في القلب منها، شأنها في ذلك شأن كل التحولات السياسية الكبرى في التاريخ الإنساني. ولعل الاتفاق الأميركي الروسي على تهدئة الوضع في الجنوب السوري هو أحد مقدمات هذه التسويات التاريخية، وسوف تحمل لنا الأيام القادمة مفاجآت كبرى، وليس علينا سوى الانتظار.