علي نون

ليست معركة جرود عرسال على صِلَة بلبنان، بل ببعض أهله! وليست على صِلَة بالحرب المدعاة على الإرهاب بقدر ما هي على صِلَة بخريطة النفوذ الإيراني وملحقاتها التي يبقى الأبرز فيها الحفاظ على الغطاء الشكلي الذي يوفّره رئيس سوريا السابق بشّار الأسد لذلك النفوذ.

وآخر ما يمكن لأقطاب هذه المعركة إدّعاؤه، هو وضعها في سياق حديث النازحين الى لبنان، الدارج هذه الأيام. والمأخوذ كحُجّة لتبرير ما لا يُبرّر في شأن «العلاقات اللبنانية – السورية». والدعوة إلى العودة إلى التنسيق مع سلطة الأسد!

وهي، مثل كل المعارك الحاسمة في النكبة السورية، منذ بدء عسكرتها التامة، تُنفَّذ ميدانياً بعد استكمال تحضيراتها سياسياً! أي بعد إتمام وتأمين عدم وجود أي «فيتو» عليها من قبل أي طرف معيّن فاعل ومؤثر إقليمي أو دولي. وبعد خلوص المفاوضات والمناورات والمقايضات إلى نتيجة تتلاءم مع قرارات وسياسات هؤلاء المعنيين.

في عنوانها هي «معركة ضد الإرهاب» لكنها في واقعها هي استكمال للخرائط التي رسمها الأميركيون والروس أولاً وأساساً، وبإقرار إسرائيلي ثانياً.. وهذه لا تنفصل عن السياق العام القائل (أميركياً) بالحرب على الإرهاب. والقائل (روسياً) باستكمال كسر التوازن الميداني تمهيداً لفرض، أو محاولة فرض، حل مرحلي على حساب أكثرية السوريين.

لعب الروس ويلعبون الدور المحوري في رسم حدود توزّع النفوذ والقوى، بحدّ السكّين والنار. قايضوا مع الأتراك شرق حلب بحدود حملة «درع الفرات» في الشريط الشمالي الحدودي السوري! ويفعلون ذلك الآن مع الإيرانيين وملحقاتهم الميليشيوية.. وأيّاً تكن الخلاصة غريبة (وغير منطقية) فهي لا تغيّب تلك المقايضة. بحيث أنّ «ابتعاد» جماعة إيران عن حدود المنطقة الجنوبية وكل ما يعنيه ذلك، يقابله «السماح» لها بإتمام ما كانت بدأته في بلدة القصير قبل أربع سنوات، وإحكام السيطرة على كل الشريط الممتد من الساحل السوري شمالاً الى تخوم جبل الشيخ جنوباً.

تكفَّلوا (الروس) ويتكفّلون بإنجاح هذه المهمة الصعبة والمزدوجة. أي بتهدئة الإسرائيليين، طالما أنّ «جبهتهم» مؤمّنة! وتهدئة الأميركيين طالما أن خطّهم الأحمر محترم! وطالما في الإجمال، تجري المعركة بين «آخرين» بغضّ النظر عن المجرم والضحية والمفتري والمُفترى عليه منهم!

والتوليفة صعبة ومعقّدة بقدر ما هي غير دائمة. بحيث أن إنضاج الخرائط، الذي تندرج معركة جرود عرسال في سياقه، لا يُعكّر تركيز واشنطن على ضرب الإرهاب في سوريا والعراق، ويجنّبهم مع الإسرائيليين مرحلياً فتح معركة التصدي لنفوذ الإيرانيين، قبل أوانها.. لكن الأهم في هذه التركيبة هو موقف الجانب الإيراني، الذي (مرّة أخرى) لا يتردّد أمام أي شيء مخزٍ طالما يوصل ذلك الى تأمين مكاسب له! أي أنه ينصاع غصباً عنه لشروط التهدئة مع الأميركيين والإسرائيليين، وينزوي الى الخلف إزاء تهديداتهم، لكنه يستشرس في وجه أهل سوريا ويُكمل تغوّله في المذبحة، ولا ينسى أن يضع ذلك في خانة «الحرب على الإرهاب» بعد تبيان مفعول هذه الستارة في تغطية مراميه المذهبية والفئوية و«الاستراتيجية»! مثلما لا ينسى إضافة المعركة الراهنة الى ملفه المثقل بـ«الانتصارات الإلهية»!

وليس جديداً (ولا سهلاً!!) القول بأنّ مصلحة لبنان غير منظورة رغم ثانويتها، في معركة جرود عرسال! مثلما لم تكن هذه المصلحة منظورة أصلاً، في ذهاب «حزب الله» الى سوريا وانخراطه في قتل السوريين دفاعاً عن مصالح إيران وسلطة آل الأسد! إلا إذا أرادت ماكينة الممانعة الإصرار على متابعة الاستثمار في ثقافة التخويف (الإسرائيلية أساساً) وإقناع عموم اللبنانيين، بأنّ بضع مئات من المقاتلين المحاصَرين في جرود نائية، هم العقبة الوحيدة المتبقّية في الطريق الى نصرة المسجد الأقصى وتحرير القدس! وهم التهديد الاستراتيجي الخطير لـِ«المقاومة» برغم قدرتها المدعاة على «تغيير خرائط المنطقة»!