يبدو الطريق إلى الفلوجة خالياً إلا من بضع سيارات تسير بسرعة كبيرة، كأنها في حلبة سباق تتنافس للوصول إلى الهدف، ثم تختفي عند نقطة «تفتيش الصقور» على بعد 10 كيلومترات عن مدخل المدينة، ويسير كل منها في اتجاه على الطريق السريع.

الرحلة من بغداد إلى الفلوجة (60 كلم) صعبة لمن يزورها للمرة الأولى، بعد تحررها من سلطة «داعش» لكن الوصول ليس مستحيلاً، فالطريق، بمقدار ما يظهر من صور حقيقية لحجم الدمار الذي لحق بالمدينة، يدعو إلى التفكير بما كان عليه الوضع في «عهد» التنظيم: منازل مهدمة، وجوامع تآكلت جدرانها بفعل الرصاص والقصف، ووجوه لا تبتسم كثيراً للغرباء، فالجميع ينظر إليك بتحفظ، يبدو عليها الخوف من المجهول بعد مرحلة صعبة.

بقايا الأدوات الخاصة بألعاب الأطفال تتناثر في الحديقة العامة المهجورة عند مدخل الفلوجة، وعلى بعد مسافة قصيرة منها، نقطة تفتيش، يسمح الشرطي للسيارات الداخلة إلى الحي العسكري بالمرور عبرها، بعد أن يحتفظ بالأوراق الرسمية للسيارة وإجازة السائق، إلى حين خروجه من الحي، وعند تجاوز تلك النقطة تتجلى الحياة اليومية في المكان.

على الجانب الأيمن، كان بعض الناس يتزاحمون للمرور من فتحة صغيرة داخل حاجز إسمنت تنتهي متاهاته إلى مبنى المحكمة، حيث يجلس عدد من العاملين لإنهاء المعاملات، ويتبادلون الحديث مع المراجعين بأصوات عالية للتغلب على ضجيج المكان ومعرفة حاجاتهم وكتابتها في الطلب الرسمي.

التقاط صور المنازل المهدمة يثير فضول الكثيرين، ويثير تساؤلاتهم، فالرجل الخمسيني الذي شاهد الكاميرا في يدي هرول مسرعاً في اتجاهنا، وبادر إلى السؤال بصوت عال: «من أنتم؟ وماذا تريدون؟ لماذا تلتقطون الصور»؟ وبعد جدال لبضع دقائق فهم أننا لسنا من «متصيدي التعويضات» كما يسميهم. وأوضح أن «كثراً من الغرباء يأتون إلى الحي لالتقاط صور المنازل المهدمة وإرفاقها بطلب التعويضات، من دون أن يكون لهم أي صلة بالمنزل المنهار وصاحبه. لذلك ظننت أنكم منهم».

وعند مدخل «ثانوية الكوثر للبنات» وقفنا في انتظار الموافقة للدخول والتحدث إلى الطالبات اللواتي كنّ يؤدين الامتحانات النهائية، وخلال لحظات الانتظار، كانت الفتيات يخفين وجوههن فور رؤيتهن الكاميرا خوفاً من التقاط صورهن. ثم يعتذرن: «لا نستطيع أن نتحدث عن أي شيء اذهبوا إلى مديرية التربية»، هكذا كانت الإجابة فغادرنا إلى السوق القديمة.

حجم الدمار في السوق طاول كل شيء، بما في ذلك الجوامع التي انهار بعضها في شكل كلي، فيما تضرر بعضها الآخر، ويبدو أن الدمار قلص عددها في المدينة الصغيرة التي اشتهرت بمساجدها المئة، أما سكانها الذين تجاوز عددهم 300 ألف نسمة، فمعظمهم غادر قبل انفجار الوضع وقليلون بقوا فيها حتى لحظة دخول الجيش.

صبار عطيوي المكنى «أبو وسام» واحد من آخر مئة ألف بقوا داخل الفلوجة، وأفرج عنه بعد التحقيق لعدم وجود أدلة ضده. يقول الرجل لـ «الحياة»: «منذ سنوات ونحن نغادر ونعود بعد نهاية الحروب، هذه المرة قررت البقاء والموت في المدينة لأن المغادرة لا تقل خطورة، والحقيقة لم أصدق يوماً أنني سأبقى حياً بعد كل ما حصل خلال المواجهات لكنني ما زلت أتنفس».

عودة الحياة إلى المكان بدأت بالتدريج، بعض المناطق لم يتم فتحها أمام الأهالي إلا قبل شهرين أو ثلاثة، فقوات الأمن تدقق في المعلومات عن العائدين للحؤول دون دخول «الدواعش»، ما دفع عائلات التنظيم إلى البقاء في العامرية أو في منطقة (18 كيلو) غرب الرمادي.