مأمون فندي

بدا الشيخ تميم بن حمد مرتبكاً ومرهقاً في خطاب الأزمة الذي ألقاه مساء الجمعة الفائتة، فبدا وكأنه ليس هو. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فلم يكن الخطاب «تميما» أبدا. إذ جاء الخطاب مشتتاً ينقصه التماسك والتركيز في الرسالة، صفات تميز حديث الأزمات الملحة.

خطاب أمير قطر جاء ضارباً في كل حدب وصوب وكأنه مكتوب من قبل لجنة بعضها متخصص في الاقتصاد، والآخر في الإعلام، وثالث في السياسة الدولية ورابع في فن التلميح لا التصريح. إذن، كما نقول بالعامية المصرية «مش تمام» شكلا وموضوعاً أو في هذه الحالة «مش تميم».
فبينما كانت المنطقة، وأظن الشعب القطري أيضا، يتمنون من الشيخ تميم خطاباً تصالحياً وإعادة نظر في سياسات قطر وقبولا بالنقد المقدم لقطر ولو جزء منه وليس كله من أجل رأب الصدع بين الأشقاء ومن أجل تسهيل مهمة الوسطاء في حل أزمة ذات تبعات لو تعلمون عظيمة على قطر والمنطقة، جاء خطاب الشيخ تعبوياً من الحقبة الناصرية، ليعبئ الشعب القطري ويجهزه لصيف طويل وربما لخريف من الغضب لأزمة قد يطول أمدها. وكما خطابات الستينات التعبوية جاء متمسحاً بالقضية الفلسطينية من أجل كسب تعاطف جماهير باتت لا تكترث، وتحمل من همومها الصغيرة ما يجعلها لا تكترث بالقضايا الكبرى أو أنها مع الوقت اكتشفت أن الخطابات التي تستلهم القضية الفلسطينية أو تتغطى بها معظمها عارية أو زائفة. وجاءت في الخطاب عبارات همز ولمز لن تلقى قبولا في عواصم المقاطعة في القاهرة والرياض وأبوظبي والمنامة، ومن هنا يمكن وصف الخطاب بأنه خطاب غير موفق، إنه خطاب «مش تمام»، أو في هذه الحالة «مش تميم». بالمرة.
وما لم يجعل الخطاب «تميما» أيضا هو تلك اللغة غير الخليجية المستخدمة، التي تتغطى بالنظام الدولي وفيها كثير من المبالغة في أهمية الذات، وكأن المتحدث قائد دولة كبرى لا دولة صغيرة على طرف الخليج فيها كل مميزات الدولة الصغيرة، وأيضا فيها كل عيوب الدول الصغيرة وخطورة تمددها (over stretching) على نفسها وعلى غيرها. لغة الخطاب تبدو غريبة على الثقافة الخليجية إلا في نسختها الصدامية (نسبة إلى صدام حسين) من حيث المبالغة في أهمية الذات والانفصال عن الواقع.
ما هي رسائل الشيخ تميم؟ ولماذا أرى أنها تعقد الأزمة وتطيل من أمدها ولا تسهم في الحل؟ الرسالة المجملة هي أن أبواب الدوحة مغلقة، ومن أراد التفاوض فليحترم سيادة قطر ولا يطالبها بتغيير سياستها الخارجية فسياساتها الخارجية لن تتغير. قطر دولة ملاك لم تخطئ أبدا وظلمها الجيران، وهذه رسالة خطيرة للغاية، حيث إنها استمرار لعدم تحمل المسؤولية وتبعات سياسات قطر التي جاءت مؤذية وكارثية على شعوب المنطقة وبعض من دولها. عدم تحمل المسؤولية يكشف عن عدم نضج سياسي لا عن رشد في السياسات. إذن نحن أمام مزيد من هذا، ولا بد أن يجهّز الجوار نفسه ويتعود على ذلك.
الرسائل الأخرى المحيطة توحي بنشوة لنجاح سياسات قطر في الغرب، واتهم الأمير دول المقاطعة بدغدغة مشاعر «قوى عنصرية في الغرب» هي مجرد أقلية ولا تمثل السياسة الغربية، ولذلك فشلت في كسب الرأي العام العالمي في قضية المقاطعة، أو ما أصر الأمير على تسميته «حصار قطر» وللحصار تبعات قانونية يوحي بأن قطر ستأخذ الأمر إلى الأمم المتحدة في خطوتها التالية، وهذا يصبّ في سياسة التصعيد والتعقيد لا سياسات المصالحة والحل.
الرسالة الثانية هي رسالة اتهام لدول المقاطعة ورسالة تنصل من المسؤولية، إذ قال الشيخ تميم إن ما حدث لقطر هو أمر مخطط سلفاً من أجل تركيع قطر وإذلالها، وإن قطر مظلومة والعالم لا يقبل الظلم. إذن ما باليد حيلة، قطر مجرد ضحية، وكأن الجماعات التي تؤويها قطر على أرضها من يوسف القرضاوي إلى قادة التنظيمات المتطرفة كلها مجموعات تنتمي لحزب الخضر والمحافظة على البيئة. وكأن قطر لم تصرف ملايين الدولارات أثناء ثورة يناير في مصر، وقد كتبت هنا أن قطر دفعت بسبعين مليون دولار كاش في شوارع القاهرة في أول أسبوع ولصالح الإخوان، وهذا ما جعل الإخوان في مصر يستطيعون ركوب الثورة، ويقدمون أنفسهم على أنهم قادتها رغم أنهم لم يلتحقوا بها إلا بعد أن تبينت إمكانية نجاحها. ومن لديه شك في هذه الأموال عليه فقط قراءة عدد الطائرات الخاصة القطرية التي هبطت في مطار القاهرة في الفترة من 28 يناير (كانون الثاني) 2011 إلى تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) 2011، رقم غير مسبوق. لم يذكر الأمير أن تدخل قطر في ليبيا كان كارثة على أهل ليبيا، ولم يتحمل تبعات ما قامت به المخابرات القطرية. هل لأن ما حدث في ليبيا هو أحد العوامل التي أتت بالشيخ تميم إلى الحكم؟
مقتل السفير الأميركي لدى ليبيا كريس ستيفنز، كان اللغز الأكبر في عملية استبدال مجموعة أخرى بمجموعة الحكم في قطر من دون خلخلة قطر والقواعد الأميركية هناك. تسريب المعلومات عن علاقة بين قطر ومجموعات متطرفة يزعم أنها قتلت السفير، واحد من أكبر العوامل التي أتت بتميم إلى الحكم، حيث وضع الأميركان الأمير السابق حمد بن خليفة بين خيارين: إما أن يفتح الكونغرس تحقيقاً حول مقتل السفير في ليبيا أو أن يتخلى هو ومجموعته عن الحكم لابنه، من أجل إنقاذ سمعة قطر في أميركا وعدم المساس بعلاقة عسكرية أضحت استراتيجية بعد نقل القيادة المركزية إلى قاعدة العديد، بدلا من تامبا في ولاية فلوريد، واختار الأمير التنازل عن الحكم بدلا من هذا. وقد كتبت هذا قبل تنحي الأمير حمد بشهور وقلته شفوياً على إذاعة بي بي سي، وكان توقعي صائباً يومها بتنحي الأمير لصالح ابنه. وليس هذا موضوعنا. لكن النقطة هي أن سياسة قطر في ليبيا كانت مكلفة للبلدين ليبيا وقطر نتيجة حماقة في التصرف ومع ذلك لم يأتِ الأمير على ذكرها بأي نوع من الندم أو حتى إشارات لتغيير السياسة الخارجية القطرية.
بل على العكس من ذلك نسب أمير قطر الثورات العربية كلها لقطر، كل الثورات كانت نتيجة لثورة المعلومات التي أطلقتها قطر عن طريق قناة الجزيرة التي أنشأها أمير قطر السابق عام 1996، ما حدث كله كان نتيجة الجزيرة، وكأن الشعوب العربية كلها بلا إرادة، وبلا أي دوافع داخلية للنظر إلى مستقبل أفضل، كان العرب في ظلمات وعَمًى جماعي لم يخرجنا منه سوى نور الجزيرة. لا أعتقد أنني سمعت مبالغة في أهمية الذات تقترب من هذا.
إذن الجزيرة والإخوان أداتان لن تتخلى عنهما قطر في سياستها الخارجية، وظني أن هذا لن يسعد لا مصر ولا الإمارات ولا المملكة العربية السعودية، وستفهم هذه الرسالة على أنها «أبواب الدوحة مغلقة حتى إشعار آخر». وهذا الإشعار الآخر هو قبول دول المقاطعة بشروط قطر للتفاوض وليس العكس، ومن هنا أقول بإطالة أمد الأزمة واتجاهها إلى مزيد من التعقيد.
لغة الخطاب أيضا أحدثت شرخاً شخصياً بين أمير قطر ونظرائه، أشبه بحديث بشار في عبارة أشباه الرجال التي أوصلت سوريا إلى حالها الآن. الغمز واللمز الذي جاء في حديث أمير قطر لا يليق بالثقافة الخليجية المحافظة، ومن هنا فرصة جلوسه على طاولة واحدة مع قادة دول للمقاطعة ستكون أمرا ليس باليسير.
الخطاب كما ذكرت في البداية كتبته لجنة وليس فرد، خطاب مرتبك، «مش تميم»، يعقد ولا يحل، ويشعل حرائق لا يطفئ، قطر تحتاج لإعادة نظر في سياساتها أو إعادة تركيب نظامها على أسس غير الكراهية. وأن تنتقل من خانة أدوات الهدم إلى أدوات البناء في المنطقة، أو على قول الشيخ عبد الله بن زايد، أن تنتقل من عالم الدمار إلى عالم الإعمار، وهذا يتطلب نقدا للذات لم يكن موجودا في خطاب الشيخ تميم.