عبد المنعم المشاط

لا شك أن اختراق الأمن القومى العربى والانكشاف الاستراتيچى وفشل جامعة الدول العربية فى تطبيق المادتين 5، 6 من ميثاقها فيما يتصل بالتدخل لحل المنازعات العربية- العربية، يفتح الباب على مصراعيه أمام القوى الإقليمية والدولية لإعمال خططها واستراتيجياتها نحو إسقاط الدولة، وإعادة تقسيم الوطن العربى على أسس جديدة تحقق تلك الاستراتيجيات والمصالح، وبالنظر إلى الدول أعضاء جامعة الدولة العربية الاثنين والعشرين، يهولنا أن نلاحظ أن أكثر من 23 بالمئة منها قد سقط بالفعل (اليمن وسوريا والعراق وليبيا والصومال)، وأن أكثر من 18 بالمئة منها مخترقة، إما بقواعد عسكرية أجنبية أو جماعات بقوة الدولة أو بخطط تقسيم جاهزة (جيبوتى وقطر ولبنان والسودان). 

أما دول شمال إفريقيا (18بالمئة)، وهى المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا؛ فقد تقوقعت على ظروفها الداخلية وتقترب من أوروبا أكبر من اقترابها من الوطن العربي، كما أن جزر القمر غارقة فى المحيط الهندي، أما فلسطين؛ فهى ليست دولة بعد، يتبقى من الوطن العربى سبع دول (نحو 32 بالمئة)، وهى مصر والأردن والإمارات والسعودية وعمان والبحرين والكويت، والتى انشغلت أربع منها؛ وهى مصر والإمارات والسعودية والبحرين بمقاطعة قطر لمساندتها الإرهاب، نحن نتحدث عن أن ما يناهز ثلثى الدول العربية لم تعد فعليًا موجودة، وهناك تساؤلات عدة حول قدرة الثلث الباقى على الصمود أمام المتغيرات الإقليمية والدولية بل والمحلية السريعة والعميقة، والحقيقة الجلية أن مصر هى الدولة العربية الوحيدة التى تمتلك مقومات الدولة القومية كما يعرفها الفكر السياسي، هى دولة لفظت المعتدين والغازين ورفضت اختلاطهم بشعبها، كما أنها لم تتوسع على حساب أحد صيانةً لوحدة مجتمعها. 

يشير الفكر القانونى إلى أن للدول أربعة مقومات، شعب وأرض وحكومة واعتراف دولي، وهذا بلا شك متوافر فى عدد كبير من الدول العربية، بيد أن العلوم السياسية تشترط لاستمرار وبقاء الدولة شرطين إضافيين يتمثل أولهما فى حتمية قيامها بوظائفها المكلفة بها طبقًا للعقد الاجتماعى غير المكتوب بينها وبين مواطنيها؛ الإنتاج والتوزيع والأمن والمشاركة، ثم التمثيل الخارجي، بيد أن أداء تلك الوظائف بفاعلية يتطلب بادئ ذى بدء توافر الشرط الثاني، وهو بناء المؤسسات أى المأسسة بمعنى الفصل بين الأشخاص الذين يتولون السلطة من ناحية والمؤسسات التى تؤدى الوظائف المطلوبة من ناحية أخرى بناءً على الحكمة السرمدية بأننا كلنا زائلون، أما الوطن؛ فهو باق، وتبدأ الدول فى عملية المأسسة ببناء المؤسسات الثلاث الرئيسية؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية. 

وفى هذا الصدد، توجد ثلاثة أنظمة لا رابع لها؛ النظام الرئاسى حيث الفصل بين السلطات بما يعنى التوازن والرقابة المتبادلة، مثل؛ النظام الأمريكي، والنظام البرلمانى القائم على التداخل بين السلطات، وأن السلطة التنفيذية تقع بيد رئيس الوزراء المنتخب؛ كالنظام البريطاني، والنظام المختلط الذى يجمع بين هذين النظامين كما هو الحال فى فرنسا. وبالرغم من تطبيق هذه النظم فى عدد كبير من دول العالم الثالث ووجود احترام وتقدير بين تلك المؤسسات طبقًا للدستور كما هو الحال فى الهند وإسرائيل (بدون دستور) إلا أن الحال فى الدول العربية يختلف تمامًا؛ فمن ناحية، وفيما عدا مصر التى حافظت على حدودها ونقاء نسيجها الاجتماعي، رسمت القوى الاستعمارية الحدود السياسية بين الدول العربية، وتم توزيع السكان على تلك الدول بصرف النظر عن التجانس العرقى أو الدينى أو المذهبى أو الثقافى أو القبلى كما هو الحال فى إفريقيا، بل إن بعض الدساتير العربية تتناول توزيع المناصب التشريعية والتنفيذية بناءً على اعتبارات دينية ومذهبية. 

من ناحية أخري، وهذا هو الأهم، تتركز السلطات الفعلية بكاملها فى رئيس الدولة سواء كان رئيسًا أو ملكًا أو شيخًا أو أميرًا بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسى أو نوع العلاقة بين المؤسسات، من ثم؛ تهابه جميع المؤسسات، وربما يتناسب ذلك مع طريقة تشكيلها؛ فهى فى أغلب الدول العربية بالتعيين، وفى بعضها بالانتخابات غير المباشرة، وفى البعض الثالث تصير لا وظيفة لها، وتشير الحقائق السياسية على الأرض إلى وجود توحد بين الحاكم والدولة، ولهذا يتولى الحكام العرب السلطة لمدد غير محددة إلا فيما ندر، حيث ينص الدستور المصرى على أن مدة الرئيس 4 سنوات قابلة للتجديد بالانتخاب المباشر مرة واحدة. 

فى ضوء العجز عن بناء مؤسسات فاعلة والإفراط فى شخصنة السلطة، والعجز عن تحقيق الرضاء، لم يكن غريبًا أن تقوم الثورات العربية بدءًا من يناير 2011 فى تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وأكثر من ذلك، لم يكن مستهجنًا أن تقوم مراكز الأبحاث الدولية بالتخطيط لإسقاط الدولة العربية التى بنيت عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتى فشلت فى تحقيق التنمية وبناء المؤسسات لاستبدالها بكيانات أكثر استقرارًا لتحقيق مصالح الأطراف الدولية، روسيا والولايات المتحدة وأوروبا وغيرها، والقوى الإقليمية غير العربية؛ إسرائيل وتركيا وإيران، وفى مواجهة ذلك قررت الدولة العربية الانغلاق على نفسها والانفصال عن العالم وما يموج فيه من تطور تكنولوچى على مدى الساعة، ولجأت إلى إنكار وقع ذلك على تطوير مجتمعاتها إلى أن صارت هناك ازدواجية بين مجتمع مرتبط ومتشابك ومتفاعل مع العصر من ناحية، وحكومات منغلقة على فكر وأساليب عمل ومعاملات أداء تنتمى على أحسن تقدير إلى القرن العشرين، حكومات تتحدث عن الجيل الرابع من الحروب، بينما يستعد العالم لمواجهة الجيل السادس الذى يتولى اختراق التجهيزات العسكرية والقدرات النووية إلكترونيًا، هكذا صارت الدولة كيانًا معرضًا للخطر، وفى الوقت الذى تتقارب فيه الدول لتوثيق التعاون التكنولوچى كالهند وإسرائيل، مازالت قطر تفتح أراضيها للقواعد العسكرية الأجنبية. 

أزمة الدولة العربية، وهو ما يقود إلى إسقاطها ذاتيًا ناهيك عن الاستراتيچيات الخارجية، أن المواطن صار كونيًا، بينما الحكومات محلية فى عصر ينبذ قصر النظر ويعلى من الانخراط فى المستقبل، أزمتها أيضًا أنها لم تلحق بعد بتكنولوچيا العصر أو الإعلاء من المحاسبية والمساءلة، كما أنها لا توظف خبراءها الوطنيين وتحتضنهم، ولا تؤمن بأن مصير الدولة بيد مواطنيها، عليها إذًا أن تعبئ أبناءها وتدفع إلى تكاتفهم فى مواجهة قوى الإرهاب الدينى الساعية إلى الهدم والسقوط وإحلالها بقوة البناء وحب التقدم والبقاء.