سمير عطا الله

 لم أتعرف إلى صباح في بيروت، أو عالية، أو بحمدون، أو الحازمية. ذات يوم من 1976 ذهبت إلى القنصلية اللبنانية في مونتريال لحضور حفل استقبال بمناسبة الاستقلال. وكان منزل القنصل العام في منطقة أوترومون الراقية، تصعد إليه على درج طويل. وفيما أنا في منتصفه صعوداً، رأيت صباح على أوله نزولاً: فرس شقراء تصهل، قبل أن أبادر بالتحية «يه، يا حياتي، شو جابك لهون».

لم تكن المفاجأة أن أرى صباح في مونتريال، بل أكتشف أنها تعرفني، أما «حياتي» فهو عندها من «أحرف» النداء، تخاطب به الجميع، وبعد قليل تضيف إليه «تقبرني»، وهي من تعابير المحبة والرقة في لبنان. ويبدو أنها كانت في عجلة من أمرها، فقالت باقتضاب، وبين الدعوة والطلب: «بانتظارك اليوم على العشاء. إياك أن تقول لأ».
لا يُعتذر عن دعوة صباح في بيروت، فهل تُرفض في مونتريال؟ كانت «الصبوحة» لا تزال في عز أناقتها، ترتدي «تايوراً» فستقي اللون، يتناسب مع بشرتها الحنطية. أما إلى العشاء، فاستقبلت ضيوفها بأناقة يغلب عليه الأزرق، ومضاءة بالجواهر مثل سوق الصاغة. تفرش صباح الطيبة والمشاعر والمائدة بكرم واحد، صادق ومكبِّل.
طوال الوقت كنت أشعر بعقدة ذنب، ازدادت مع الزمن. فأنا لا أحب أغاني صباح، ولا تجذبني مواويلها الشهيرة، ولا يطيب لي النوع البلدي الذي تغنيه. لكن صباح، الإنسان، كان تُفرح النفس والقلب بحضورها وخفة ظلها. وبمجرد لقاء أول تضم نفسها إلى عائلتك، وتتفقد أخبارك، وتعتب في صدق على التغيب. و«أطرف» اللقاءات مع صباح، كانت بدعوة من زوجها السابق، النائب جو (يوسف) حمود، وكان كلاهما يشكو من الكرم الأسطوري الذي أوصل إلى الفقر.
كانت سنوات صباح الأخيرة محزنة مثل فيلم سينمائي. فقدت مالها، وفقدت جمالها، وفقدت أهلها وأصدقاءها. لكنها أصرت على الاستمرار في البحث عنهم جميعاً، لا تلين لغدر العمر ولا خيانة الأقربين. وكانت ظهوراتها الأخيرة في البرامج التلفزيونية مؤسفة. فقد تحول الصبا الجميل إلى عثرات الشيخوخة وجفاف الرونق.
وكما كانت مفاجأتي مضاعفة في لقائها، كان حزني مضاعفاً في غيابها. فهي رفضت أن تسامحني على هفوة غير مقصودة في برنامج تلفزيوني. وقد عرضتُ أن أصحّح خطأي في برنامج خاص، لكن جواب سيدة القلوب الطيبة كان عناداً غير مألوف: «أنا لا يهمني الكلام من أي كان، لكن من فلان... أبداً».
كانت منذ طفولتها، جزءاً من جماليات لبنان، صوتاً وصورة.