عادل درويش 

تلوث الجو في العواصم والمدن الكبرى المزدحمة بالسكان، وبخاصة من غازات محركات السيارات، التي تسبب الكثير من أمراض الجهاز التنفسي لمئات الآلاف من السكان، أصبحت ظاهرة عالمية لا تقتصر على مدينة أو حضارة غربية أو شرقية.

الفارق طبعاً هو في تعامل المسؤولين والحكومات مع الظاهرة وكيفية معالجتها. فارق سببه الثقافات الاجتماعية وأسلوب المعيشة، وأيضاً الثقافة السياسية.
فالنظم الديمقراطية، حيث المسؤولون والحكومات منتخبة وتعمل ألف حساب للصوت الانتخابي، ستختلف طريقة معالجتها للأزمة عن أسلوب تعامل ساسة أو أجهزة حكومة غير منتخبة، ولا سبيل للناخب أو دافع الضرائب إلى محاسبتها على أدائها.
وحتى داخل النظم الديمقراطية يتفاوت التعامل مع ظاهرة تلوث البيئة بطبيعة التركيبة التأسيسية للقوانين، سواء فيدرالياً أم في الحكم المركزي من العاصمة، ومدى الصلاحيات والاستقلالية التي تتمتع بها المدن والأقاليم خارج سيطرة بيروقراطية العاصمة. كما أن التعامل مع ظاهرة التلوث مرتبط عالمياً في معظم بلدان الدنيا تقريباً بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بالبيئة، كاتفاقيات كيوتو وريو دي جانيرو، وآخرها بروتوكول باريس؛ لأنها معاهدات واتفاقيات ألزمت الدول الموقعة عليها بصياغة قوانين على المستويين القومي والمحلي مخصصة لحماية البيئة، أو تعديل القوانين الموجودة بالفعل بحيث تتماشي مع الاتفاقيات العالمية بشأن البيئة واستخدام الطاقة.
ربما التجربة الحالية التي تمر بها لندن والمدن البريطانية الكبرى، حيث سجلت المستشفيات وعيادات الصحة العامة تزايد عدد حالات المصابين بأمراض الجهاز التنفسي من تلوث البيئة بعشرات الآلاف؛ تعتبر نموذجاً على تعقد المشكلة وشبه استحالة إيجاد حل شامل لها، ليس فقط بسبب تخبط الساسة، وتقييد حركتهم بسبب الحساسية تجاه الناخب فحسب، بل لتناقض الحلول المطروحة مع الوضع الاقتصادي، وأحياناً تناقض خطط حل الأزمة مع الأهداف المطلوب تحقيقها استراتيجياً على المدى الطويل.
تعامل الساسة في بريطانيا مع هذه الأزمة التي حصروا معظم أسبابها في غازات العادم المنبعث من سيارات محركات الاحتراق الداخلي، نموذج لتخبط الساسة المنتخبين ديمقراطياً، وبخاصة عندما تربط البلاد نفسها باتفاقيات تلزمها بالتوصل لأرقام محددة حول استهلاك الطاقة، وبشأن تنظيف البيئة بلا دراسة شاملة مفصلة ما إذا كان لدى المجتمع الوسائل الاقتصادية والتكنولوجية لتحقيق السياسة المقترحة.
تتولى المجالس البلدية وعموديات المدن الكبرى (المقابل في مصر مثلاً مكتب المحافظة) إدارة الطرق وتنظيم المرور بطريقة تدعي أنها تحافظ على البيئة وتقلل من التلوث. لكن الأسلوب المتبع يتلخص في أسلوبين؛ الأول فرض رسوم باهظة، هي في الواقع إتاوات كالمغالاة في مخالفات المرور، وفرض رسوم إضافية على رَكن السيارة أمام المنزل حسب حجم المحرك ومدى استهلاكها للوقود. والأخيرة مناقضة للغرض المفترض؛ فحجم المحرك يصبح ذا تأثير في حالة سير السيارة لا ركنها.
والطريقة الأخرى التي تلجأ إليها البلديات هي الإجراءات المرورية التي تظن أنها ستنقص أعداد السيارات على الطرق؛ لكن إجراءات تقليل السرعة تؤدي إلى اختناقات مرورية أو إنشاء إشارات مرور. والثابت علمياً أن الاختناقات المرورية وتبطئة المحرك أو تعطيله عند إشارة المرور ثم تشغيله تؤدي كلها إلى مضاعفة كمية العادم الخارج من السيارة، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون. أي أن السياسة التي تتخذها البلديات والحكومات المحلية تأتي بنتائج معاكسة للغرض من السياسة نفسها، اللهم إلا إذا كان الغرض المخفي هو تحصيل المزيد من الرسوم.
هذا الأسبوع، الحكومة المركزية في لندن تدخلت بقرار من وزير البيئة والزراعة وشؤون الريف، معلناً سياسة جديدة تنوي حكومة تيريزا ماي التشريع لها، وهي إنهاء استخدام سيارات محركات الاحتراق الداخلي والاعتماد على سيارات تسير بالكهرباء مع نهاية عام 2040.
خطة الحكومة طموحة، لكن تفاصيلها غير واضحة، فالتزامها باتفاقية باريس من ناحية، ولوائح الاتحاد الأوروبي بشأن نقل توليد الطاقة من المحروقات إلى طاقة متجددة كالرياح، وهي تكنولوجيا لم تتطور بعد ولا يمكن ضمان سرعة الرياح وهبوبها، كما أن ثمن توليدها باهظ؛ مما يجعلها غير اقتصادية، وبالتالي يشكك الكثيرون في إمكانية توفير ما يكفي من محطات شحن بطاريات سيارات المستقبل بالكهرباء بالكثافة التي توجد فيها حالياً محطات البنزين في شوارع المدن.
كما أن تكنولوجيا بطاريات السيارات للشحن السريع أو استبدالها في محطات الخدمة بسهولة، لم تتطور بعد بشكل يجعل المشروع قابلاً للتطبيق العملي.
ولذا؛ يشك الصحافيون في أن وزارة البيئة تبحث عن أصوات انتخابية بسبب شعبية موضة المحافظة على البيئة بين الناخبين وشكواهم من تلوث هواء المدن.
أما أكثر نموذج عملي على تخبط الساسة ومناقضة السياسة لأهدافها، فهو الانقلاب المفاجئ تجاه السيارات والشاحنات التي تدور بمحركات الديزل بعد تقارير أنها عند حرق الوقود تنتج كميات كبيرة من النيتروجين، المسبب الأكبر لأمراض الجهاز التنفسي بسبب تلوث أجواء المدن.
في العقد الماضي كانت سياسة الحكومة هي تقليل إنتاج غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يعتبر المتهم الأول المسؤول عن ظاهرة الاحتباس الحراري، فكانت تحفز الناس على استبدال سيارات محرك الديزل بسيارات محرك البنزين، باعتبار أن عادم المحروقات في الأولى أقل تلويثاً للبيئة من أبحاث شركات تصنيع السيارات نفسها.
الحكومة تدفع اليوم بمشروع قانون بإحالة قرابة عشرة ملايين من سيارات الديزل إلى مخازن الخردة، واستبدال سيارات كهربائية بها.
ولأن معظم أصحاب هذه السيارات من الطبقات العاملة وسائقي التاكسي والعاملين في الخدمات والصيانة فسيضطرون إلى الاقتراض من البنوك لشراء السيارات، في وقت يحذر فيه خبراء الاقتصاد من ارتفاع الديون بشكل يهدد بانهيار في بنوك التسليف كما حدث قبل عشر سنوات.
فقرض شراء السيارة استهلاكي لتناقص قيمتها بشكل متسارع، بينما قروض شراء العقار - مثلاً - هي قروض إنتاجية لتزايد قيمة العقار بسرعة، كما أنه يساعد في حل أزمة الإسكان.
حكومة المحافظين تترك نفسها عرضة للاتهامات بأنها تنسق مع أصدقائها وحلفائها في حي المال والبنوك باعتبارهم أول المستفيدين من القروض التي سيضطر الملايين إلى استدانتها من البنوك لاستخدام سيارات كهربائية بدل سياراتهم الديزل.
وكان يمكن – مثلاً - إصدار قوانين لإجبار شركات صناعة السيارات على سحب تدريجي لكل سيارات الديزل من الشوارع، وتركيب فلترات خاصة لمعالجة النيتروجين قبل انبعاثه مع عادم السيارات الديزل لمنع النيتروجين من الانتشار وتلويث البيئة. فشركات السيارات نفسها التي قدمت نتائج أبحاث أقنعت الحكومة في العقد الماضي بأن محرك الديزل هو الأفضل لمكافحة أخطار التلوث.
النموذج هنا أنه حتى في أعرق الديمقراطيات وأم البرلمانات، فإن المشاريع والإصلاحات المتسرعة أو تعالج المشكلة على المدى القصير، قد تأتي بنتائج عكسية أو تتسبب في مشاكل أكبر على المدى الطويل.