عبد الوهاب بدرخان

من المحتمل أن يكون الأسبوع الماضي رسم المنعطف الأخطر في المرحلة القصيرة التي أمضاها دونالد ترامب في البيت الأبيض حتى الآن، ليس في إقالات جديدة ومرتقبة لعدد من شخصيات إدارته بل خصوصاً في بروز الكونغرس بمجلسيه موجّهاً أو معرقلاً لخيارات الإدارة.

أقل ما يقال إن وضعاً كهذا يحدث بلبلةً في السياسات التي يعلنها الرئيس ويعبّر عنها أو يتخذ فيها قرارات تتعلّق بمصالح للولايات المتحدة حول العالم، ولكنها تخصّ أيضاً دولاً وحكومات ربطت سياساتها بتعاقدات مع حكومته. كانت إدارته أفصحت باكراً عن أصدقاء وخصوم، إلا أن الحروب الداخلية في واشنطن لم تسمح حتى الآن بإقلاق جدّي للخصوم ولا بطمأنة وافية للأصدقاء، هؤلاء وأولئك لا يزالون يتلقَون من واشنطن إشارات متناقضة لا يستطيعون الحكم على مدى ثباتها.

المؤكّد أن المواجهة مفتوحة وشرسة بين الرئيس الجمهوري وجمهوريي الكونغرس وأن خصومه الديموقراطيين يتفرجون ويشاركون ويجمعون نقاطاً لمصلحتهم. وعلى الرغم من أن الخلافات المعلنة غالباً ما تكون عناوين كبيرة لمصالح قد تكون صغيرة، إلا أن ملف روسيا فعل فعله في تسميم ولاية ترامب أيّاً تكن التفاصيل أو نتائج التحقيقات الجارية وتوابعها. وإذ يتفق معظم الأجهزة على أن تدخّلاً روسياً حصل فعلاً في الانتخابات، لكنه لم يؤثّر في نتائجها، فإن هذه القضية كانت تكفي وحدها كي يتّبع الكونغرس نهجاً متشدّداً حيال موسكو، غير أن انكشاف اتصالات لمسؤولين روس مع أفراد من عائلة ترامب ومسؤولين في طاقمه أشعل كل الشكوك في «الخيار الروسي» للرئيس وحوّله من مجرّد وعد انتخابي حسن النيّة إلى أجندة خفية فيها تعاونٌ وتواطؤٌ مسبقان.

الواقع أن ترامب لم يفعل الكثير لرفع الشكوك بل ساهمت تغريداته في تأكيدها، خصوصاً أنه خاصم أجهزة الأمن والاستخبارات علناً، ثم إنه أقال مدير الـ«إف بي آي» وقد يعاقب وزير العدل لعدم تدخّله للتأثير في التحقيقات، بل إن الواقعة الأكثر تعبيراً كانت انتهازه زيارة سيرغي لافروف، الأولى لمسؤول روسي، كي يمرّر إليه معلوماتٍ تتعلق بالحرب على «داعش»، ما أثار الأجهزة المختصة وأخرى خارجية متعاونة معها. وفي المقابل، لم يكن فلاديمير بوتين إيجابياً، بل غذّى تلك الشكوك مكتفياً بالنفي واستهجان الحملة مع إشارة في مقابلته مع المخرج أوليفر ستون إلى واقعة معروفة قال إن أميركا تدخّلت فيها ضدّه في الانتخابات، موحياً بأن ما حصل كان ردّاً روسياً.

على الرغم من ضخامة الحملة على روسيا داخل مؤسسة الحكم الأميركي استغلّ الرئيسان لقاءهما الأول في هامبورغ لتجاوزها وإظهار أنهما يعملان معاً، أقلّه في سوريا، بل عقدا لقاءً بعيداً عن الوفدَين، مع كل ما يعنيه ذلك من تكهّنات، فهما إزاء مشكلة يعرفان أنه لا حلّ لها. إذ لا يمكن أن تعترف موسكو بالتدخّل وتعتذر عنه، مثلاً، ولا يمكن أن يطمس البيت الأبيض التحقيقات أو يقفلها. والأسوأ أن الرئيسين لا يستطيعان الإفصاح عما بينهما من تفاهمات «شخصية»، أو سياسية ومتى توصّلا إليها وما هو هدفها ومقابل ماذا، وإذا كانا ارتبطا بوعود سرّية (قبل انتخاب ترامب) فإنهما لا يتمتّعان بالصلاحيات ذاتها لتنفيذها. وبالتالي يمكن للرئيس الروسي أن يشعر بخيبة أمل من تلكّؤ نظيره الأميركي أو عدم قدرته على إخضاع مؤسسة الحكم لخياراته. إذ كان الرهان الأول لبوتين أن يتخلّص سريعاً من عقوبات غربية وبالأخص أميركية فرضت بسبب الأزمة الأوكرانية، وبالفعل تحدثت أوساط إدارة ترامب لفترة عن احتمال رفع تلك العقوبات في إطار تسوية، ولكن الواقع أثبت أن الكونغرس يضاعف العقوبات ويتعمّد تعميقها وزيادة أضرارها إلى حد الإضرار أيضاً بـ«حلفاء» أوروبيين، كونها تطاول شركات فرنسية وألمانية وبريطانية ونمساوية تعمل على أنابيب للطاقة مصدرها روسيا.

من الواضح أن الحزمة الجديدة من العقوبات ترمي إلى عرقلة أي تعاون بين ترامب وروسيا، واستطراداً إلى إرباك سياسته الخارجية وبالأخص في النزاعات الإقليمية. ولم يكن طلب موسكو أخيراً تقليص طاقم السفارة الأميركية لديها سوى رد على إجراء أميركي سابق، ولكن ردّها الآخر ينتظر الإقرار النهائي للعقوبات الجديدة، فالأرجح أنها بدأت تتخلّى عن رهانها على ترامب في المسائل الكبرى، ولكنها لن تمانع اقتناص بعض الاتفاقات معه في حدود المتاح، وعزاؤها أنه طالما أن إضعاف ترامب يضعف أميركا، ففي ذلك مصلحة روسية. ولعل إحدى النتائج المتوقّعة أن تُبقي موسكو على تنسيق عالٍ مع طهران في سوريا وربما تباشر عبرها عودة مدروسة إلى العراق.