ليس من المبالغة القول إن دولة الإمارات العربية المتحدة أصبحت من أكثر دول العالم إلهاماً وتفرداً في العمل الحكومي، والنموذج الرائد الذي تسعى حكومات كثيرة حول العالم للاقتداء به والسير على هديه في مسيرتها نحو التنمية والتطور والرقي، لِمَ لا وقد حباها الله بقيادة رشيدة عاهدت نفسها وشعبها بألا تحيد عن سعيها لتتبوأ المراكز الأولى عالمياً، وأن تلغي كلمة المستحيل من قاموسها، وجعلت من الابتكار والإبداع بوصلتها لتحقيق طموحاتها غير المحدودة لرفعة هذا الوطن وإسعاد شعبه.

وفي إطار تجربتها الرائدة والملهمة عالمياً في العمل الحكومي، أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، خلال القمة العالمية للحكومات التي عقدت في دبي في فبراير 2016، إجراءَ تغيير حكومي غير مسبوق شمل إضافة وزارات لم يضمها أي تشكيل حكومي في العالم، مثل إنشاء وزارة دولة للتسامح ووزارة دولة للسعادة، وتعيين وزيرة للشباب بعمر الـ22 عاماً فقط، إلى جانب التغييرات الهيكلية التي لحقت ببعض الوزارات القائمة.

وقد كان غريباً لبعض المتابعين أن يتم إنشاء وزارة دولة للتسامح في دولة تُعرف إقليمياً ودولياً بأنها «بلد التسامح»، لتكون دولة الإمارات العربية المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تجعل لـ«التسامح» كياناً مؤسسياً وتضيفه إلى منظومة العمل الحكومي، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، لم يترك مجالاً للاستغراب أو التحليل الشخصي، حيث نشر سموه مقالاً في الصحف المحلية يوم 27 فبراير 2016 بعنوان «وزراء للتسامح والسعادة والمستقبل.. لماذا؟» أجاب فيه عن كل التساؤلات التي طُرحت بهذا الشأن قائلاً: «علمتنا السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط بأننا نحتاج أن نتعلم التسامح ونعلمه ونمارسه، أن نُرضعه لأطفالنا فكراً وقيماً وسلوكاً، أن نضع له قوانين وسياسات ومنظومة كاملة من البرامج والمبادرات.. نعم تعلمنا ذلك من مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين والمنكوبين الذين رأيناهم في آخر خمس سنوات في المنطقة بسبب التعصب والكراهية وعدم التسامح الطائفي والفكري والثقافي والديني». فالهدف إذن هو عدم الركون لما هو منجز وقائم بالفعل من ترسيخ لثقافة التسامح في مجتمع الإمارات، وإنما العمل على وضع إطار مؤسسي يضمن الحفاظ على ديمومة هذه الثقافة واستمراريتها وترسيخها كسمة رئيسية لوجه الإمارات الحضاري في الوقت الذي يشهد فيه العالم بشكل عام، والمنطقة العربية خاصة، تصاعداً مخيفاً في نزعات التطرف والتشدد والكراهية التي غذت الصراعات الدينية والطائفية في المنطقة وجعلت العالم أقرب إلى تحقق نبوءة صدام الحضارات.

لقد نجحت دولة الإمارات العربية المتحدة منذ تأسيسها عام 1971 في أن ترسخ لنفسها صورة مضيئة، إقليمياً وعالمياً، بوصفها داعية سلام ورمزاً للتسامح، وهي الصورة التي وضع أسسها القائد المؤسس المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي غرس قيم التسامح والتراحم وقبول الآخر، فكراً وسلوكاً، في المجتمع الإماراتي، فكان، رحمه الله، رحيماً متسامحاً مع كل من تعامل معه، وامتدت أياديه البيضاء ومبادراته الإنسانية إلى كل بقاع الأرض دون تمييز بسبب اللغة أو الدين أو العرق أو اللون، حيث كان، رحمه الله، يردد بأن «الإسلام يقضي بمعاملة كل شخص كنفس مهما كان معتقده، وهي نقطة تجعلنا نعتز بالإسلام»، كما كان يؤمن بأن الاختلاف والتنوع بين بني البشر مدعاة للتعارف والتعاون والتكامل وليس للفرقة والاقتتال ونبذ الآخر.

هذا النهج الحكيم، الذي استمر وترسخ في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، تَجَسَّد واقعاً معاشاً في هذا الوطن المعطاء الذي يضم على أراضيه أكثر من 200 جنسية، يمثلون مختلف الثقافات والأديان والأجناس، يعيشون في وئام وتسامح وانسجام قلما نجد نظيره في أي مكان آخر في العالم، وتعزز بوضع أطر مؤسسية وقانونية تدعم تعزيز ثقافة التسامح ونشرها في ربوع دولة الإمارات العربية المتحدة وفي كل أرجاء المعمورة، باعتبارها أساس تحقيق الاستقرار والتنمية والازدهار، حيث أصدرت الدولة التشريعات والقوانين التي تجرّم الإرهاب والتطرف والتحريض على الكراهية والعنف مثل «قانون مكافحة التمييز والكراهية» الذي يجرم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها وكل أنواع التمييز ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير، وتحمي المعتقدات وتوفر للناس حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وتكرس التسامح بصفته قيمة عليا في منظومة القيم والعادات والتقاليد الحاكمة للمجتمع. كما استضافت الدولة ورعت اجتماعات منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، التي انبثق عنها تأسيس «مجلس حكماء المسلمين» الذي ضم مجموعة متميزة من الفقهاء ورجال الدين المستنيرين، وأسست مركز «هداية الدولي للتميز لمكافحة التطرف العنيف» ومركز «صواب»، وهي كلها مؤسسات قامت، وتقوم، بدور فعال في مواجهة خطابات الغلو والتطرف والكراهية التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين أكثر من غيرهم. وتعمل على نشر قيم الإسلام السمحة التي تحض على التسامح والحوار والتعايش بين الأمم، حتى غدت الإمارات بشهادة الخارج قبل الداخل عاصمة إقليمية وعالمية للتسامح ونموذجاً يحظى بالتقدير العالمي في دعم قيم التعايش المشترك والسلام، وهو ما تؤكده تقارير وشهادات دولية عدة، مثل تقرير التنافسية العالمية لعام 2016 الصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية، والذي أشار إلى تبوء الإمارات المرتبة الثالثة عالمياً في مؤشر الثقافة الوطنية المرتبطة بدرجة التسامح والانفتاح وتقبل الآخر.

كما قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً عالمياً فريداً في الانفتاح على الآخر ودعم قيم التعددية والتعايش بين الأمم، فاستضافت على أراضيها فروعاً لمتاحف عالمية مرموقة كمتحف اللوفر ومتحف جوجنهايم، وأنشأت فروعاً لجامعات عالمية عريقة كجامعة السوربون الفرنسية وجامعة نيويورك الأميركية، لتتحول الدولة إلى ساحة عالمية لتلاقي الحضارات وتفاعل الثقافات المختلفة. كما حضرت بفاعلية في مختلف المنابر الإقليمية والدولية المعنية بتعزيز الحوار والتقارب بين مختلف الثقافات والأديان. وتمثل الزيارة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، للفاتيكان في سبتمبر 2016، ولقاءه البابا فرنسيس بمقر البابوية، تجسيداً حياً لإيمان قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، بقيم التسامح والحوار والتعايش بين الأديان المختلفة، وحرصها على نشر هذه القيم عالمياً باعتبارها الأساس الذي لا غنى عنه لتعزيز السلم والأمن الدوليين.

لقد لازمت قيم التسامح وقبول الآخر وفعل الخير أبناء الإمارات منذ القدم، وتجذرت هذه القيم كسمة رئيسية لصورة الدولة الحضارية بعد تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971، مستمدة أسسها وجذورها من إرث زايد الخير، طيب الله ثراه، الذي رسخه أبناؤه من بعده، ومن قيم الإسلام السمحة التي تحض على التسامح والتعايش والوسطية، ومن الأخلاق الإماراتية التي ترسخت عبر الزمن مدعومة بمنظومة القيم والعادات والتقاليد العربية الأصيلة التي ارتبطت بأبناء هذا الوطن، ومن الدستور الإماراتي والمواثيق الدولية التي غلفت هذه القيم التي تحض على التسامح والتعايش المشترك بسياج قانوني يحميها ويضمن استمراريتها. ولذا فليس غريباً أن تشكل هذه الأسس الركائز الأساسية للبرنامج الوطني للتسامح الذي أعدته وزارة التسامح، والذي يقوم على محاور عدة منها: تعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح، وترسيخ دور الأسرة المترابطة في بناء مجتمع التسامح، وتعزيز التسامح لدى الشباب ووقايتهم من التعصب والتطرف، والمساهمة في الجهود الدولية لتعزيز دور التسامح، وإبراز دور الدولة كبلد متسامح.

إن المبادرة الإماراتية الرائدة لاستحداث وزارة دولة للتسامح، لا تهدف فقط إلى الحفاظ على قيم التسامح والتعايش التي تسود مجتمع الإمارات بالفعل، وتقديم المبادرات التي تعزز هذه القيم وتنشرها محلياً وإقليمياً ودولياً، وإنما فوق كل ذلك إيصال رسالة إماراتية سامية إلى العالم كله، بأن الاهتمام بترسيخ قيم التسامح والتعايش واحترام التعددية الثقافية ونبذ الخطاب الذي يحض على الكراهية والتطرف ورفض الآخر، يجب أن يكون في مقدمة الأولويات الوطنية والدولية، وأن تكون له الأطر المؤسسية والقانونية التي تحميه، لأن ذلك هو وحده الكفيل بتحقيق الأمن والاستقرار والسلام العالمي، ولاسيما بعد أن أثبتت التجارب العالمية على مر التاريخ، أن التهاون في نشر هذه القيم والمبادئ التي تحض على التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف دينياً وثقافياً وحضارياً، لن يجلب سوى العنف والقتل والإرهاب والصراعات الطائفية والعرقية التي تصدرت المشهدين الإقليمي والعالمي خلال السنوات الست الأخيرة.

إن الخطوة غير المسبوقة عالمياً التي خطتها دولة الإمارات العربية المتحدة باستحداث وزارة دولة للتسامح، وإسناد هذه الوزارة إلى سيدة بخبرة وحكمة الشيخة لبنى القاسمي، التي تمتلك سجلاً مشرفاً في العمل الحكومي وتلم بشكل جيد بطبيعة المجتمع الإماراتي القائم على التنوع والتعدد، ستعزز بلا شك الصورة المضيئة لدولة الإمارات العربية المتحدة إقليمياً وعالمياً بوصفها رمزاً للتسامح وحصناً منيعاً يتصدى لكل مظاهر التشدد والتطرف والكراهية، ونموذجاً رائداً عالمياً في العمل الحكومي الملهم الذي يستشرف المستقبل ويسهم بإيجابية في صناعة التاريخ الحديث.