فضل بن سعد البوعينين

أحسنت الدول الداعية لمكافحة الإرهاب في اتخاذها قرار المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية كقوة ضغط ناعمة، تسهم في حمل الحكومة القطرية على العودة إلى جادة الصواب. يمكن القول إن هدف حكومة قطر الرئيس من إجراءاتها العدائية والاستفزازية خلال العقدين الماضيين هو دفع قيادة المملكة لاتخاذ قرارات مؤذية لكيانها وأمنها واستقرارها، غير أن القيادة السعودية كانت - وما زالت - مدركة لأهداف حكومة قطر وغاياتها المتوافقة مع خطط الغرب الاستراتيجية ذات العلاقة بتقسيم الدول وإعادة تشكيلها. وأحسب أن استدعاء القوات التركية ونشر مدافعها على الحدود، والتلويح بالاستعانة بالقوات الإيرانية، والمطالبة بتدويل الحرمين، ما هي إلا جزء من منظومة الاستفزاز الممنهج الهادف إلى دفع المملكة لاتخاذ إجراء عسكري، يجعلها في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي بقيادة أمريكا التي لا أستبعد تغيير مواقفها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المشؤومة..

تعيد حكومة قطر استنساخ مصيدة العراق في الكويت، بسيناريوهات مختلفة؛ علَّها تنجح في تنفيذ مخططها الذي بدأته عام 1995 وفق اتفاقية ملزمة، تمخضت عن عملية انقلاب الأمير السابق على والده. خسرت قطر خلال الشهرين الماضيين سمعتها، وأصبحت هدفًا للإعلام وانتقادات المجتمع الدولي، ومحورًا لقضايا دعم وتمويل الإرهاب. سلَّطت الدول الداعية لمكافحة الإرهاب الضوء على ملف تمويل قطر للإرهاب، وكشفت كثيرًا من قضاياه المتوارية عن الأنظار، ومنها علاقتها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، واحتضانها خالد شيخ محمد، وتمويله وجماعته الإرهابية. وإضافة إلى تسليط الضوء على جرائم الحكومة القطرية، وفضح تناقضاتها، نجحت الدول الأربع في وقف تمويل قطر للإرهاب وتدخُّلها في مناطق النزاع العربية؛ ما أسهم في معالجة الملفات العالقة في ليبيا وسوريا، وإضعاف الحوثيين وقوات صالح في اليمن. مكاسب كثيرة تحققت خلال شهرين من المقاطعة؛ ما ينبئ بتحقيق جملة من المكاسب الإيجابية خلال الأشهر القادمة؛ ما يعزز جدوى المقاطعة الاقتصادية والسياسية الناعمة وقوة تأثيرها على المديَيْن المتوسط والبعيد.

وفي الجانب المالي خسرت قطر جزءًا مهمًّا من قوتها الاقتصادية، وتأثيرها المالي على المجتمع الدولي، إن لم يكن بسبب ضعف ملاءتها المالية، وتعثر تدفقاتها النقدية، فبسبب تسليط الضوء على مدفوعاتها المالية التي أصبحت شبهة؛ تستدعي التحقق وكثيرًا من الإجراءات القانونية المؤثرة التي لا يرغب شركاؤها بالوقوع في شبهاتها.

بيانات مصرف قطر المركزي أظهرت تراجعًا في صافي النقد الأجنبي بما يقرب من 10.4 مليار دولار في يونيو؛ ليصل إلى 24.4 مليار دولار، أي بنسبة انخفاض قدرها 30 في المائة، وهي نسبة مؤثرة وخطيرة في آن. دفعت المقاطعة الاقتصادية بعض البنوك وصناديق الاستثمار لسحب بعض أموالها من قطر، إضافة إلى سحب الودائع الخاصة، والتحوُّل الممنهج من الريال القطري إلى الدولار؛ ما أدى لاستنزاف الاحتياطي الأجنبي. هناك عدم يقين بحجم الاحتياطيات القطرية، وقدرة الحكومة على تسييلها لمواجهة المتطلبات النقدية والمالية المتفاقمة. فسيولة المصارف في أدنى مستوياتها، كما أن نسبة القروض إلى الودائع بدأت في التضخم؛ ما ينذر بتعرض البنوك إلى مشكلات ملاءة حقيقية خلال الأشهر الستة القادمة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك ارتفاع نسبة تعثر الشركات لأسباب مرتبطة باستدامة العمل، وانتظام المدفوعات الحكومية، تصبح الصورة أكثر كآبة وخطرًا.

ملاءة قطر المالية بدأت في التناقص بالرغم من ثروات الغاز والنفط والصندوق السيادي، وهو أمر لم تستوعبه الحكومة بعد. الدكتور سعد الدين إبراهيم كتب في جريدة "المصري اليوم" قول الشيخ حمد بن خليفة، الأمير السابق لقطر، خلال حديثه معه، ما نصه: "رغم أننا في هذا البلد الصغير مساحة والقليل سكانًا فإنه يسبح على بحيرة من الغاز الطبيعي، الأغنى في العالم بعد روسيا مباشرة، ومن البترول الذي يجعل قطر البلد الثاني بعد السعودية". ومع خطأ تقدير الاحتياطيات النفطية التي وقع فيها إلا أنني أركز على الفرق بين وجود الثروات وإمكانية استغلالها، إضافة إلى المخاطر التي قد تعطل تلك الثروات، أو تحولها إلى نقمة مدمرة، كما حدث في العراق على سبيل المثال لا الحصر. لم تنجح احتياطيات العراق النفطية وثرواته المتنوعة في انتشاله من الانهيار الاقتصادي والفقر والعوز وضياع الأمن. الأمر عينه ينطبق على إيران التي تشترك مع قطر في أهم حقول الغاز الحدودية، وتتفوق عليها في الاحتياطيات النفطية والقدرات التصنيعية.

بالرغم من احتياطيات الغاز، واستثمارات الصندوق السيادي، عجزت حكومة قطر عن حماية اقتصادها، وتوفير احتياجاتها الأساسية، والمحافظة على سعر الريال، ووقف تدهور الغطاء النقدي، وحماية مصارفها واقتصادها المترنح أمام العقوبات الاقتصادية. المقامرة السياسية تقود دائمًا إلى تدمير الوطن والاقتصاد، وإضاعة الثروات الطبيعية، كما حدث في العراق وإيران ودول أخرى. وهو أمر قد يحدث في قطر إن لم توقف مقامراتها السياسية، وتعود إلى مسارها الصحيح والمنظومة الخليجية.

عودًا على بدء، فالاستمرار في المقاطعة الاقتصادية، إضافة إلى تحريك قضايا "تمويل إرهاب" ضد حكومة قطر، هما الخيار الأنسب والأجدى والأأمن للدول الداعية لمكافحة الإرهاب.