حسام عيتاني

تتصاغر الوقائع الميدانية لمعركة جرود عرسال أمام جسامة التبعات السياسية المتوقعة لها على الداخل اللبناني. لم يأت الإفراط في التغطية الإعلامية من قلة الأحداث الجارية، بل من نية مسبقة في توظيف المعركة في سياق أعرض يتعلق برسم المستقبل.

تبرز النية تلك في تصريحات عدة تدخل من باب تمجيد «المقاومة» وانتصاراتها على الإرهابيين وعلى إسرائيل للوصول الى بناء قناعة عامة عن ضرورة بقاء «حزب الله» كجيش رديف للجيش اللبناني، من دون اتباع الدعوة هذه بتساؤل عن القرار السياسي الذي يحرك الجيش المقترح ولا كيفية مساءلته ووضعه ضمن أي آلية قانونية تجعله يخدم المصالح اللبنانية من دون غيرها. مزيج من الصراخ والتهديد والكلام السهل المبتذل يغطي على أي محاولة لفهم مجريات الأمور.

الأهم أن فكرة إدغام قوات الحزب ضمن أجهزة العنف الشرعية تشكل جزءاً من مشروع أكبر بدأت علاماته تظهر عبر تقييد الصحافة وربطها بمصدر وحيد هو من يسمح أو يمنع الحصول على المادة الأولية الضرورية لوسائل الإعلام، الخبر. 

هاتان الإشارتان المبكرتان- تسويق إضفاء الشرعية على قوات «حزب الله» كجيش شرعي، والتحكم اليومي والتفصيلي بما يجوز لمحطات التلفزة والصحف والمواقع الإلكترونية أن تقول أو لا تقول- تندرجان في جدول أعمال الحزب كقوة وحيدة مهيمنة على كل تفاصيل السياسة والأمن والإعلام، والاجتماع والاقتصاد والثقافة في مراحل لاحقة، في البلد.

تسليم أكثرية المسيحيين بمركز «حزب الله» المُقرر وغياب أي قدر من التماسك عن مواقف «تيار المستقبل» وإقراره الضمني بهزيمته في مواجهة الحزب، تزيل عقبات مهمة من طريق سيطرة «حزب الله» على لبنان. متابعة تصريحات السياسيين وأداء الحكومة ومؤسساتها أثناء معركة جرود عرسال، تقول إن سفينة الاعتراض على تمدد سيطرة الحزب على لبنان قد غرقت، وإن الجميع يقفز منها باحثاً عن قارب نجاة مهما كان صغيراً، ولو على شكل أرباح من صفقات فساد تافهة.

وليس كشفاً القول إن تشريع الجهاز العسكري والتحكم بالرأي العام وصناعته، خطوتان ضروريتان لفرض منطق السلطة المقبلة التي ستحتفظ بطابعها الائتلافي، لكن مع ميل شديد لكفة تحالف المنتصرين. ليس من الملحّ في هذا السياق التخلي العلني عن اتفاق الطائف ولا اللجوء الى تعديلات دستورية. بل يمكن السير في بناء سلطة جديدة أحادية من خلال إجراءات تدريجية وسلسلة من الخطوات الصغيرة التي سيفيق اللبنانيون ذات يوم ليجدوا أنها قد باتت نهائية وغير قابلة للانعكاس.

كبير الدلالة ذلك الصمت الذي قابلت به وزارتا الإعلام والعدل حملات التخوين والتهديد الصريح بالقتل التي توزع مطلقوها على وسائل الإعلام. ليس لعجز الوزارتين أو لغياب الدليل على تجاوز الحملات القوانين والأعراف، بل بسبب الموافقة المستترة والعلنية على المشروع الذي يسند مناخ التهويل. هو مشروع حظر السياسة في لبنان بمعناها التداولي المفتوح والعلني ونقلها الى غرف مغلقة لا تدخلها إلا قلة قليلة من المَرضي عنهم من جانب الحزب المعصوم لينفذوا سياسات لم يشاركوا في تقريرها.

ستجرى الانتخابات وستبقى شكليات النظام الديموقراطي (الذي لم يكن مرة راسخاً في لبنان خارج صيغة الطوائف المسلحة). لكن، في ما يتجاوز السطوح والقشور، سيكون لبنان المتعدد والقابل لأفكار التسوية والمشاركة قد مات وقام مكانه بلد تُصنع فيه الإجماعات بقوة الإنذارات والوعيد. والحديد إذا اقتضى الأمر.