سمير عطا الله

قال كاتب نمساوي إن الذي يهاجر إنسان لا ذكريات له. تتأكد من ذلك عندما تتطلع في هذا العالم وترى أن جميع المهاجرين من الشبان. إلا مهاجرو القسر العربي، فهم من الأطفال والرضَّع. ولأسباب شخصية وعامة، قضيت معظم هذا العمر، سفراً وهجرة. 

والأقسى من الاثنين أن تكون غريباً في موطنك، فتكون آنذاك، مهجوراً لا مهاجراً. خربة نفسية غير مرئية، مثل بيت قديم هدم جدرانه الهجر والنسيان. وهذا حال ملايين العرب، كباراً وصغاراً. لقد تهدم عالمهم، مرة من الداخل، ومرة من الخارج، وجلسوا ينتظرون عالماً آخر.

لا أعرف عدد الرحلات التي قمت بها بين باريس ولندن. من الجو، تتراءى لك في الطريق الخضرة والأنهر والبحيرات والمنازل من حولها، ومن القطار تملأ أنظارك سطوح القرميد والجسور والمراعي. تنطلق من أجمل عاصمة إلى أهم عاصمة. تاريخ إمبراطوري من هنا ومن هناك. واحدة غيرت وجه العالم بالثورة الصناعية، وأخرى بالثورة السياسية.

ولكن رجلاً واحداً كان رقيباً في الجيش النمساوي، أمر بدك لندن، وتمنّع جنوده باحتلال باريس. تمشت جزمات الهتلريين اللماعة في الشانزليزيه والسان جيرمان والأوبرا. ودمرت مقاتلاته جسور لندن الجميلة. وعندما حاول أحد ضباطه اغتياله بوضع قنبلة في اجتماع الأركان، قتل الأركان ولم يُصب هو إلا بجروح.

جميع المحاولات لعزله، أو قتله، أخفقت، ولم يمت إلا بالانتحار بعدما أحرق نصف أوروبا وكل ألمانيا. أراد بريطانيا دكاناً، وروسيا مزرعة، وفرنسا معرضاً، وبولندا خادمة. وكلما وصلتُ من باريس إلى لندن، أو العكس، أقول في نفسي: لماذا لا يبقى التاريخ، مثل اليافعين، بلا ذكريات؟ لماذا كل هذا الحشو من الآلام والجراح والتشرد والأمراض والرعب والبرد والموت؟ ومن أجل مَن، وفي سبيل ماذا؟

عندما أتمشى في حديقة التويلري، أو غابة بولونيا، أو حديقة اللوكسمبورغ، أقول في نفسي: ماذا كان شعور العائلة الفرنسية المتنزهة هناك وهي تسمع وقع الجزم الألمانية تحاول أن تزرع الرعب والذل في نفوس الأطفال؟

لكن كما خرج فرنسيو نابليون من روسيا أذلاء الهزيمة، هكذا خرج ألمان هتلر من فرنسا. ويعودون اليوم سياحاً. ويحل ابن المارشال غورينغ ضيفاً على احتفال 14 يوليو (تموز).