نبيل عمرو

فوجئ قرّاء الصحف الفلسطينية، بصورة كبيرة على الصفحات الأولى، تظهر وفداً من حركة حماس، يجتمع بالرئيس عباس في مقره برام الله. وسبب المفاجأة هو مستوى التوتر غير المسبوق بين حماس وفتح، إلا أن مفاجأة أكبر انطوى عليها الخبر الذي أُعلن بعد اللقاء.

يقول الخبر إن وفد حماس قدم التهنئة للرئيس محمود عباس على الإنجاز الذي تحقق في معركة الأقصى. واللافت أن تهنئة حماس - الضفة، جاءت مخالفة تماماً لأدبيات أشقائهم في غزة، فالجميع استمع وأثناء المعركة المحتدمة في الأقصى، إلى إدانات صريحة للرئيس الذي وصفته بـ«المنتهية ولايته» ونُشرت صور في غزة وتحتها شعارات تندد بالرئيس عباس وبسلطة رام الله، بلغت من القسوة حد الاستنكار من قبل كثير من القوى... فليس هكذا ولا إلى هذا المستوى يصل السجال الفلسطيني الداخلي.

ما فعله وفد فرع حماس في الضفة، منسجم تماماً مع السياسة الرئيسية لحركة حماس، وهي السياسة القائمة على إجازة التكيف مع الأواني، حتى لو كان هذا التكيف مخالفاً للأدبيات والشعارات.

إناء الضفة فرض تكيفاً من هذا النوع، وهذا يقودنا للحديث عن الأواني الأخرى، فمنذ نشأت الأزمة القطرية وقبلها الإجراءات الضاغطة للرئيس عباس، شرعت حماس في التكيف مع المطالب المصرية التي كانت متجاهلة، إن لم أقل مرفوضة، قبل أشهر قليلة. ونشأت بين حماس ومصر علاقة جديدة، الإيجابي فيها أعلى بكثير من السلبي. ولأن الدولة المصرية ليست جمعية خيرية تهب العطايا لمن يحتاجها، فلا بد أن تكون قد حصلت من حماس على ما يبرر العلاقة الجديدة معها، وهنا تظهر براعة التكيف، حتى لو أدى الأمر إلى الانتقال من النقيض إلى النقيض.

وكذلك حكاية حماس مع دحلان... ولو جمعنا ما قالت حماس عن الرجل أيام الأمن الوقائي في غزة، وأيام الانقلاب ولسنوات طويلة بعده، فإننا سنجد تحليلاً للخمر رغماً عما قاله مالك، وهذا أيضاً برهان قاطع على التكيف، حتى لو اقتضى الأمر الانتقال من النقيض إلى النقيض.

أما التحسب من مضاعفات مقاطعة الدول الأربع لقطر، فقد أدى بحركة «المقاومة الإسلامية» إلى شكر دولة قطر من قبيل المجاملة، والسعي الحثيث لفتح علاقات مع الدول الأربع، ومصر والإمارات ليستا دولتين قليلتين في هذا الأمر.

وإذا ما وسعنا الدائرة، فإن الموقف من حركة «الإخوان المسلمين» تأثر كثيراً بالمستجدات، فوجدت الحركة الفخورة بانتمائها الفكري والسياسي والتحالفي نفسها مضطرة لأن ترفع سدوداً بينها وبين الجذر، فاحتفظت بالبعد الفكري كصلة غير ضارة بالجذر، ومنحت نفسها مساحة من الابتعاد، بحكم أنها حركة تحرر وطني، لا ترى مصلحة لها في دفع فواتير «الإخوان» في مصر وغيرها.

لا يعيب حركة حماس أن تتكيف مع المستجدات، وأن تجد فتاوى رصينة ومؤثرة لتغليف الانتقال في المواقف والسلوك من النقيض إلى النقيض، فليست هي وحدها من يفعل ذلك، ففي هذا الزمن تقوم سياسات الدول الكبيرة والصغيرة على مبدأ التكيف وفتح القنوات بحكم الضرورة وليس بحكم المبادئ، إلا أن ما يؤخذ على حماس حقاً وهي تتوغل في البراغماتية على حساب المبدئي، أنها لا تمارس نوعاً من الصراحة في تفسير انتقال المواقف والسلوك إلى اتجاهات مناقضة، وهي بذلك تقع في المحظور الذي كانت تؤاخذ الآخرين حين يقعون فيه، وكأن المناورة السياسية والمصلحية متاحة لها ومحرمة على من تختلف معه، وهذا أمر مهما برعت اللغة في التعبير عنه أو التمويه عليه، إلا أنه يضعف المصداقية ويقلل من احترام الشعارات المرفوعة وحتى تفهمها. 

وإذا كان التكيف حسب الأواني المتاحة والضرورية هو سياسة معتمدة وخصوصاً لدى قليلي الحيلة وضعيفي الإمكانيات، فإن المحظور الأهم الذي تنتجه هذه السياسة، أنها لا تفضي إلى نتائج أساسية تزيد على ضمان البقاء على قيد الحياة، وهذا أمر يختلف كثيراً عما تعد الحركة به من وراء رفع شعار المقاومة المسلحة، وما ينبثق عنه من أدبيات كانت المبرر للجماهيرية حين رفعها، وبفعل التكيف الاضطراري، صارت عبئاً ثقيلاً على الحركة وأنصارها والجمهور الذي تحكمه.