أحمد المرشد

أعتقد أنه لمن يريد الكتابة عن أزمة المسجد الأقصى الأخيرة بين حكومة بنيامين نيتانياهو الصهيونية وبين الشعب الفلسطيني في القدس الشرقية ومدن الضفة الغربية، عليه أن يكتب بعد انتهاء تلك الأزمة عن تداعياتها على الحكومة الإسرائيلية وما أحدثته من شرخ في المجتمع الإسرائيلي تحديدًا.

وهذا نتيجة الأخطاء الفادحة التي ارتكبها نيتانياهو ومجلس الوزاري المصغر المعني بالشؤون الأمنية، وهذه الأخطاء لم تكن هينة، بل فادحة كادت تودي برئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته الى الهلاك، ويا ليتها فعلت حتى نرتاح منه ومن أمثال هؤلاء الإرهابيين، فالإرهاب ليس في الدول العربية فقط كما يدعي الغرب، بل يمارسه الإسرائيليون وبوحشية لا مثيل لها ضد الشعب الفلسطيني ولكن العالم لا يرى الإرهاب الإسرائيلي، وإن رآه تغافل عنه ولم يعلق عليه.
هذه هي بدايتنا، ولهذا لن نتحدث طويلاً عن الانتصار الفلسطيني في أزمة الأقصى الأخيرة، والتي سيظل التاريخ يتحدث عنها، فشعب أعزل بلا سلاح يستطيع باتحاده أن يدفع أعتى حكومة يمينية عرفها التاريخ الى تغيير بوصلتها وإلغاء كل إجراءاتها الأمنية في محيط المسجد الأقصى والاستغناء عن كاميرات المراقبة الإلكترونية التي كلفتها ملايين الدولارات، الى أن تضطر لإزالتها بعد هبة المقدسيين وغيرهم من سكان مدن وبلدات الضفة الغربية.
ومن التداعيات الأليمة التي ستظل كامنة في نفوس الإسرائيليين لفترة طويلة، أن قيادات الأمن الإسرائيلي لم تتفق على كلمة سواء في مسألة تأمين الأقصى، وكذلك لم تتفق آراء غالبية الخبراء الأمنيين مع رؤية نيتانياهو وأعضاء حكومته اليمينية الدينية. فقد اعترضت القيادات الأمنية على نصب بوابات تفتيش إلكترونية على المداخل الثمانية للمسجد الأقصى المبارك، ونبه هؤلاء رئيس الحكومة الى أن القرار سيكون ذا تبعات أخطر مما تصوروا، رغم أن مستوى تحذيرهم لم يرقَ لهبة الفلسطينيين التي فاقت كل التوقعات، ولم يتصور أي فرد في إسرائيل أن يكون رد الفعل الجماهيري الفلسطيني بهذه القوة. واعتقدت حكومة نيتانياهو أن رد الفعل الفلسطيني لن يتعدى عن موجة عابرة وسريعة ليتم فرض الأمر الواقع عليهم، وهذا بسبب انشغال الفلسطينيين بأنفسهم وصراعاتهم الداخلية، علاوة على أنهم سيملون بسرعة من وقفتهم ويرضخون للشروط الإسرائيلية، وأن الأمر لن يتفاقم ويتطور إلى انتفاضة.
ومن تداعيات الأزمة التي انفجرت في وجه نيتانياهو وحكومته، ما تعرض له من اتهامات بجهله للتاريخ، خاصة لأن معظم وإن لم تكن كل الانتفاضات الفلسطينية ارتبطت بالمسجد الأقصى. ومن بين اتهامات الأمن لنيتانياهو أنه عرض أمن إسرائيل للخطر، في وقت لا يجب اللعب فيه.
ورغم أن بعض الكتابات الإسرائيلية توقعت أن يكون نيتانياهو فجر أزمة بوابات الأقصى كبداية لحرب مطولة ضد الفلسطينيين لكي يمنح حكومته الشرعية للبقاء فترة أطول أو الحصول على أصوات مرتفعة في أي انتخابات مرتقبة، إلا أن تلك الأزمة أثبتت ضعف موقف الجيش الإسرائيلي في مواجهة أي انتفاضة فلسطينية حاليًا. حتى أن الإدارة الأمريكية فشلت في تجنيد موقف فلسطيني معتدل حيال الأزمة، لينتهي الأمر بإبلاغ إسرائيل بضرورة إزالة البوابات الإلكترونية سبب الأزمة، والتفاوض مع الأردن والفلسطينيين على بدائل، رغم أن الفلسطينيين رفضوا الحديث عن بدائل، وصمموا على ضرورة عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انفجار الأزمة.
ومن تداعيات أزمة المسجد الأقصى على الجانب الإسرائيلي أيضا، الحرب التي أصبحت علنية بين جهاز الشاباك الإسرائيلي «الأمن الداخلي» وبين الحكومة واليمين الإسرائيلي عمومًا، وهي الأزمة التي بدأت تحت السطح وخفية في البداية لتظهر الى العلن، كاشفة عن أزمة ثقة كبيرة بين مكونات الحكم في إسرائيل.. فقبل نشوء أزمة البوابات الإلكترونية، حذر رئيس الشاباك نداف أرجمان رئيس الحكومة قائلاً: «تخيل أنك وضعت البوابات الإلكترونية ويقف وراؤها نحو 20 أو 30 شرطيًا، وأن يصل في الوقت مئات المصلين في الأيام العادية والألاف في أيام الجمعة، ليتم فحصهم إلكترونيًا فردًا فردًا، فهذا الأمر يستغرق وقتًا، وربما تصفر البوابات وتضطر لإعادة الفحص، الى أن يكتظ المكان بالمصلين المنتظرين ويبدأ صبرهم ينفد الى أن يهاجموا الحراس». وكان تحذير رئيس الشاباك لنيتانياهو واضحًا جدًا في هيئة سؤال: «ماذا يستطيع أن يفعل 30 مراقبًا في مواجهة مئات أو آلاف؟ فقد تحدث هنا كارثة».
الذين يعلمون بكبرياء نيتانياهو وعجرفته يدركون أنه سيرفض هذا التحذير، وقد كان، حيث لم يكترث لكلام خبراء الأمن، واستمرأ في غيه ليتم وضع البوابات الإلكترونية على مداخل الحرم. المشكلة لم تنتهِ بعد، إذ اندلعت حرب كلامية في البداية لينال كل طرف من الآخر بشتى الطرق، هذه الحرب دارت رحاها بين قيادات جهاز الشاباك من جهة وبين زعماء اليمين الصهيوني من جهة أخرى الذين صوروا قيادات «الشاباك» بأنهم جبناء وانهزاميون، وقال البعض أنهم يجب أن يتركوا مواقعهم لغيرهم من القادرين على حماية إسرائيل.
وبينما كانت هذه الأحداث تجري على أرض الواقع، انصب تفكير المقدسيين على التغلب على هذه الأزمة التي اختلقتها إسرائيل، وبما لا يتهدد مستقبل مدينتهم وحدودها الجغرافية، فكل ما يهم المقدسين الأرض والعرض، ومن ناحية الأرض تحديدًا تخوف الفلسطينيين من أن يختبرهم نيتانياهو بمسألة الأبواب الإلكترونية أولاً حتى يطبق «قانون القدس الكبرى» في مرحلة لاحقة، وهو القانون الذي تفرض فيه إسرائيل سيادتها الفعلية على القدس الشرقية المحتلة باعتبارها «جزءًا من القدس الموحدة»، ولم تعد تكتفي بنهب الأرض الفلسطينية وإقامة المزيد من المستوطنات فيها. وينص مشروع القانون على ضم المستوطنات في محيط القدس وبيت لحم إلى السيادة الإسرائيلية لتكون تحت نفوذ البلدية الإسرائيلية للقدس «القدس الغربية»، وليكون هذا أمرًا واقعًا في القدس قبل استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. وقد مهدت حكومة نيتانياهو لإقرار هذا القانون الباطل، بتوفير 14 مليون دولار لتطوير حوض البلدة القديمة وبناء مصاعد وممرات ونفق تحت الأرض للوصول الى الحي اليهودي في البلدة القديمة وصولاً إلى حائط البراق، من خلال حفريات تحت ساحة المسجد الأقصى. كما تشمل الخطة إنشاء مشروع «سكك الحديد المعلقة» في جميع مناطق البلدة القديمة وصولاً الى باب المغاربة، وتحسين البنية التحتية لتشجيع السياح وغيرهم على زيارة حائط البراق. وتضاف هذه الخطة لمخططات بناء استيطاني في محيط القدس الشرقية تم إقرارها مؤخرًا، لتنضم الى نحو 64% من أراضي القدس الشرقية سبق وأن ضمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من أراضي القدس الشرقية، ما حال دون توسع الأحياء العربية، ليتبقى للمقدسيين ثلث ما كانوا يملكونه فقط قبل الرابع من يونيو 1967.
لقد تحدثنا عن الآثار السلبية الناجمة عن أزمة الأقصى ضد حكومة نيتانياهو اليمينية، ليحين الوقت لنشير الى آثارها الإيجابية على الفلسطينيين في هذا الوقت الحالك بالنسبة للوطن العربي الذي تحيطه الأزمات من كل جانب، وإذا كان من حقنا التحدث عن إيجابيات، فلعل أهمها هي الثقة بالنفس التي عادت للفلسطينيين بعد أن كادت تضيع هذه الثقة بسبب المشكلات المزمنة بين فتح وحماس والانقسام الفلسطيني، واستطاع الفلسطينيون أن يحتلفوا بانتصارهم وفرض كلمتهم على الإسرائيليين، ليثبتوا لقياداتهم المنغمسة في المشكلات وللعرب وللعالم أنه ما ضاع حق وراؤه مطالب، والشعب الفلسطيني صاحب حق أصيل في أرضه وقضيته طالما أصر على استعادة حقوقه المغتصبة وإن طال الزمن. انتصار آخر حققه المقدسيون عندما أثبتوا لأنفسهم وللعرب والعالم أيضا أنهم ليسوا شعبًا ضعيفًا كما يعتقد البعض خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقدسات، والأهم أنهم أثبتوا أن ما تظهره إسرائيل من قوة، هو مجرد خيال وليس واقعًا، فإسرائيل ليست بالقوة الجبارة التي لا تقهر، وإنما مجرد دولة احتلال تستغل قوتها العسكرية الغاشمة ضد المدنيين العزل.
وبمنطق صراع القوة، يمكننا القول إن الهزيمة لحقت بالإسرائيليين رغم قوتهم العسكرية، وكان النصر من نصيب الشعب صاحب الحق.. ثم من نصيب من ناصر القضية الفلسطينية سواء شعوب أو حكومات عربية الى أن جاء دور جامعة الدول العربية التي تصدت للإجراءات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، لتدعو الى مؤتمر عاجل لوزراء الخارجية العرب لمناقشة الأزمة وسرعة حلها، وقد كان حيث أثبت العرب قدرتهم على الفعل وليس على الكلام.. وهنا نجد لزامًا علينا استرجاع جزء من كلمة الشيخ خالد بن أحمد الخليفة وزير الخارجية، لأنها أعادت الأمور الى نصابها، وحددت الهدف من عقد الاجتماع العاجل لوزراء الخارجية العرب، ولكم كانت الكلمة قوية ومؤثرة، وعبرت حقًا عما يجيش به كل صدر عربي حيال المسجد الأقصى.. فقد ذكر الشيخ خالد: «إن السلام والعنف نقيضان لا يجتمعان أبدًا، فمن يريد السلام ويسعى إليه، لا يمكن أن ينتهج العنف والقوة لإيذاء الآخرين أو يتعدى على حقوقهم ويمس مقدساتهم، بل يكون حريصًا غاية الحرص على توفير هذه الحقوق وصونها، ومتجاوبًا مع كل مبادرة أو جهد من شأنه أن يقرب السلام الذي سيضع المنطقة بأسرها على أعتاب مرحلة جديدة نتطلع إليها».