إياد أبو شقرا 

صحيحة المقولة الشهيرة إنه «ليس في السياسة صداقة دائمة، أو عداوة دائمة، بل مصلحة دائمة». وإذا ما نظرنا حولنا، لوجدنا أن السياسات الأكثر نجاحاً هي الأكثر واقعية، والأبعد عن المثاليات والمبادئ الأخلاقية التي تعلمناها من الأهل، وفي المدارس.
الشعارات كثيرة. ومثلها فنون التحريض، ولكن في نهاية الأمر، وبصرف النظر عمّا يقال، فإن مربط الفرس هو أين تكمن المصلحة.
الولايات المتحدة، الدولة التي أسست على مبادئ الآباء المؤسسين ومثالياتهم، ونص إعلان استقلالها على إعلائها شأن «الحياة والحرية والسعي إلى السعادة»، لم تجد غضاضة إبان سنوات «الحرب الباردة» في مساندة ديكتاتورات في الشرق الأقصى وأميركا اللاتينية وبعض دول أفريقيا... وكانت الذريعة تخوّفها من تمدد «الغول الشيوعي»، وضرورة منع تغلغله في دول فقيرة معرضة في أي وقت للثورات.
وفي المقابل، هناك الاتحاد السوفياتي، الذي قامت ثورته «الأكتوبرية» على أساس تأسيس مجتمعات عادلة، والتبشير بـ«أممية» تتجاوز الفوارق العرقية واللغوية والدينية، لم يجد ضيراً في بناء «دول بوليسية» و«مافيات ثراء غير مشروع»، تتمحوّر حول مَن تاجروا طويلاً بعرق الكادحين، وأحلام الفقراء والحالمين بالعدالة الاجتماعية.
ولماذا نبتعد كثيراً؟ في عالمنا العربي - في قلب عالمنا - ألم نرَ كيف انتهت بعض الأحزاب «التقدمية» بمجرّد تذوقها طعم السلطة؟ في غفلة من الزمن ومحاسبة الشعوب، صار لمناضليها القصور المنيفة، ولمنظّريها الامتيازات السخية ولسماسرة النفوذ فيها... التي يتقزّم أمامها ما كان يتوافر للطبقات الميسورة «الرجعية» التي أسقطها «الثوريون»... إما على طريق طرد الاستعمار والإمبريالية أو «تحرير فلسطين»!
في نهاية المطاف الكلام يُنسى، والبيانات تُمحى... لكن المصالح، وحدها المصالح، تحدد سياسات الدول التي تجيد «لعب» السياسة.
أذكر أنه لعقود خلت كانت وزارة الخارجية الأميركية تُصدر بيانات سنوية بأسماء الدول المارقة وتلك الداعمة للإرهاب. وكانت بين الدول التي تظهر سنوياً تقريباً في هذه البيانات - ما لم أكن مخطئاً - إيران وسوريا وكوريا الشمالية. وإذا ما أغفلنا كوريا الشمالية لبرهة، لنرَ ماذا فعلت واشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما، الذي حكم لمدة 8 سنوات.
عقدت «واشنطن أوباما» مع السلطات الإيرانية اتفاقاً يتيح لها، بعد مرور 15 سنة، بناء قدرات عسكرية نووية. وليس هذا فحسب، بل من أجل التوصل إلى الاتفاق تغاضت لطهران عن تمدد «حرسها الثوري» في عموم منطقة الشرق الأوسط تحت خفق أعلام الأحقاد المذهبية وغبار الحروب الأهلية. وفي الوقت نفسه، سخرت من انتفاضة الشعب السوري وتفنّنت في حرمانها من كل أسباب النجاح والدعم، وصولاً إلى خذلانها، وتجاهل جرائم التقتيل والتجويع والتهجير والتدمير التي راح ضحيتها الملايين من أبناء سوريا.
بكلام آخر، جرى التنكر للشعبين الإيراني والسوري من أجل صفقة استنسابية، عقدت بشكل مناقض لكل مبادئ مكافحة الإرهاب.
ما ينطبق على «واشنطن أوباما» ينطبق، في الحقيقة، على معظم الدول المتقدمة التي تتباهى بتراثها الديمقراطي، وتتسابق على إلقاء المحاضرات لدول العالم الثالث المسكينة التي تعيش هموم المجاعات والأوبئة والتخلف. وأيضاً ينطبق على الدول التي تزعم أنها دول تعيش وفق مبادئ روحية سامية تتجاوز المؤسسات السياسية المألوفة. ومن الأمثلة الصارخة على هذه الدول إيران، التي وإن كانت لمقتضيات العلاقات الدولية تجري انتخابات، وتعيّن حكومات ورؤساء، وتنشئ مجالس وهيئات رقابة و«تشخيص مصلحة»، فإنها تعيش في ظل «الولي الفقيه».
هذا «الولي الفقيه» يستند راهناً إلى قوتين جبارتين تشكلان جوهر النظام، بمعزل عن كل الادعاءات حول الديمقراطية والحريات العامة، هما: ميليشيا «الحرس الثوري» ومؤسساته، ومجموعة المال التي تستقوي بـ«الحرس» وتمدّه بأسباب العيش والتوسع والتسلط.
في أواخر عام 2001 قرّرت الولايات المتحدة رداً على هجمات 11 سبتمبر (أيلول) إسقاط حكم طالبان في أفغانستان، وذلك بسبب دعمه لتنظيم القاعدة وعلاقاته الوثيقة. يومذاك لم تعترض القيادة الإيرانية على وجود الجنود الأميركيين والأطلسيين (حلف شمال الأطلسي «ناتو») في أرض أفغانستان المسلمة، بل سعدت لإسقاط واشنطن طغمة متشددة كان بينها وبين حكامها عداء مستحكم. وتكرّر الموقف الصامت نفسه في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وإسقاط نظامه، ومن ثم إعدام رئيسه. بل، رغم العداء لواشنطن وهتافات «الموت لأميركا» التي عممت طهران «ثقافتها» على امتداد مناطق نفوذها وتصدير ثورتها، استفاد مناصرو طهران من الاحتلال الأميركي بعدما جاءوا بالطائرات مباشرة إلى العراق من منفاهم الإيراني.
ولكن في البلدين، أفغانستان والعراق، حيث تحقق لطهران ما كانت تريد، انتقلت «البراغماتية» الإيرانية إلى المرحلة التالية... ولو كانت بعيدة تماماً عن الخطاب التقليدي الذي ما زال أتباعها في لبنان وسوريا واليمن يعتمدونه في مزايداتهم الثورية.
في أفغانستان، بعد الخلاص من حكم طالبان وتفاهم القوى الأفغانية على سلطة شرعية توافقية، عادت طهران لتنسج علاقات وثيقة مع «عدو الأمس»، طالبان، من أجل ضمان موطئ قدم لها في أفغانستان بعدما ناوش مسلحو طالبان الجنود الأميركيين وصولاً لابتزاز واشنطن وضمان سحبها إياهم.
الشيء نفسه تقريباً حصل في العراق، حيث ضمن الغزو الأميركي لطهران التخلص من النظام البعثي، لكن ما كان لها مصلحة ببقاء الأميركيين طويلاً. وأيضاً للضغط على واشنطن بالعمليات التي تستهدف جنودها أدى نظام دمشق مهمة توريد الإرهاب «القاعدي» إلى داخل العراق لاستنزافهم، وهنا أيضاً فعل الابتزاز فعله وقرّر الأميركيون الانسحاب تاركين الساحة خالية لنفوذ طهران.
«طالبان» و«القاعدة»، ثم «داعش»، وفق تعريف أتباع طهران في المنطقة العربية، منظمات «تكفيرية»، بينما لا تطلق هذه التهمة على من تدعمهم طهران من التنظيمات ذات المشرب نفسه تقريباً.
لقد شنت إيران حرباً عواناً في سوريا، على شعبها واقتصادها ووحدتها الوطنية بحجة مكافحة «التكفيريين». ولبضع سنوات أطل الناطقون باسمها والمدافعون عن سياساتها في وسائل الإعلام العربية التابعة لها لمهاجمة الدول التي اتهموها بمساندتهم. ولكن فجأة، بمجرد اندلاع الأزمة القطرية، وقفت طهران مؤيدة الدول ذاتها التي كانت قد رمتها بالأمس بتهم دعم «التكفير»!