محمد كركوتي

"الموت أفضل من العبودية"
هاريت آن جاكوب، كاتبة إفريقية أمريكية راحلة


لا .. ليست العبودية شيئا من الماضي. إنها حاضرة في عدد كبير من البلدان، بما فيها البلدان المتقدمة. ورغم أن انتشار العبودية في منطقتي آسيا والمحيط الهادئ الأكبر مقارنة بغيرهما من مناطق العالم، إلا أن هذه الآفة المشينة موجودة ضمن مجتمعات من المفترض أنها انتهت فيها منذ قرون. والسبب أن هناك دوما من يستطيع التحايل على القوانين، وإخفاء الأعمال المخجلة التي تلوث أصحابها. إلا أن هذا الوضع لا يعني أن الجهود التي بُذلت في القرن الماضي من أجل إنهاء العبودية بكل أشكالها ذهبت هباء، لكن وجود نسبة كبيرة من المستعبدين هنا وهناك، يغطي على النجاحات التي تحققت في السابق. فقضية عبودية واحدة، بصرف النظر عن موقعها، يمكنها أن تمحو كثيرا من الآثار الإيجابية للحرب على العبودية، وتقلل من وهج الحراك العالمي الرسمي وغير الرسمي في هذا المجال.
في العام الماضي توصلت سلسلة من الدراسات والتحقيقات الاستقصائية إلى أن هناك أكثر من 45 مليون شخص يعيشون تحت نير العبودية، بل إن هناك أنواعا مستحدثة لهذه الآفة القبيحة. وتأتي هذه النتيجة بعد أقل من عامين، على دراسة أجرتها مؤسسة "ووك فري" العالمية، أظهرت هي الأخرى ارتفاعا مخيفا في مؤشر العبودية بلغ 28 في المائة. وهذا يعني أن الحملات التاريخية على العبودية لم تحقق أهدافها تماما، وأنه لا بد من العمل سواء في ظل الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية وحتى الجمعيات الخيرية. وهذه الأخيرة تمثل محورا رئيسا على أرض الواقع في هذا المجال، ولاسيما تلك التي ترتبط بعلاقات مباشرة مع الهيئات التابعة للمنظمات الدولية الكبرى.
بالطبع، لم يعد الشكل القديم للعبودية هو السائد، خصوصا ذاك الذي يستند إلى البيع والشراء وتملك العبد وغير ذلك. رغم ضرورة الإشارة إلى وجود هذا النوع فعلا في مناطق نائية جدا وغير متصلة بالعالم بصورة طبيعية. أشكال العبودية الحديثة متنوعة تراوح بين تهريب البشر، والدعارة القسرية، وتجنيد الأطفال، والعمالة القسرية، واستغلال الأطفال في تجارة المخدرات، وغير ذلك من الوسائل والطرق، التي قد تكون غير مكتشفة حتى للجهات المختصة في الحرب على العبودية بشكل عام. والأسباب الرئيسة (بحسب الأمم المتحدة) وراء وجود هذه الأنواع من العبودية الحديثة (أو المتجددة)، يبقى الفقر والتمييز والاستعباد الاجتماعي. وما لا شك فيه أن كثيرا من الحكومات لا تقوم بما يكفي لمنع انتشار العبودية أو الكشف عن أشكالها المستحدثة. ولذلك فإنها تتحمل المسؤولية الأولى عن تفشي هذا العار الإنساني.
صحيح أن "مؤشر العبودية" لا يجري على أساس إحصائيات رسمية، لأن ذلك مستحيل على اعتبار أن الناس الذين يمارسون العبودية لا يمكن أن يفصحوا عن ممارساتهم. غير أن الصحيح أيضا أن البيانات الخاصة بـ 167 بلدا، تم استخلاصها من نحو 43 ألف مقابلة بـ 453 لغة، لتحديد عدد البشر المستعبدين وكيفية تعامل الحكومات مع ذلك. والنتائج التي تم التوصل إليها مروعة في الواقع، خصوصا مع ارتفاع العبودية في بلدان كالهند والصين وباكستان وبنجلادش وأوزبكستان. في هذه الأخيرة وحدها تم إحصاء ما يزيد على 1.23 مليون عبد، في حين يرتفع العدد في الهند إلى 3.4 مليون. مرة أخرى هذه الأرقام تعتبر في حدها الأدنى، لصعوبة الوصول إلى كل الحالات الحقيقية هنا وهناك.
ووفق الإحصاءات الأخيرة، فقد احتلت كوريا الشمالية المركز الأول من حيث انتشار العبودية. فإذا كان مفهوما انتشار هذه الآفة في بلد كهذا مغلق على نفسه، وتمارس حكومته على شعبها أبشع أشكال الممارسات، فكيف نفهم مثلا ارتفاعها في بلد كالهند بات يلعب دورا رئيسا على الصعيد العالمي من حيث الإنتاج، وكذلك الأمر مع الصين التي تحتل المركز الثاني كأكبر اقتصاد على وجه الأرض. وهنا تكمن مشكلة كبيرة، تتعلق بمفهوم العالم للبلد الكبير، أو الدولة العظمى، أو ما شابه من توصيفات يروق لكثير من الحكومات إجهاد نفسها للحصول عليها. لا يعقل (مثلا) أن تكتسب توصيفا ما من هذه التوصيفات، بينما تشهد أراضيها أشكالا مرعبة من العبودية المتجددة! بل حتى توصيف "الناشئة" لا ينطبق عليها.
بالطبع، المسؤولية تقع على عاتق كل الجهات، وفي مقدمتها الأمم المتحدة نفسها، التي ينبغي عليها أن تكون أكثر "عدوانية" مع هذه الدولة أو تلك، من أجل الوصول إلى الهدف السامي بإنهاء العبودية بكل أشكالها (ولا سيما الجديدة)، ووضع تشريعات عالمية جديدة أيضا تتماشى مع التطورات البشعة للعبودية. يضاف إلى ذلك، هناك مناطق كثيرة في بلدان إفريقية وآسيوية وحتى في أمريكا اللاتينية، لا تصل إليها السلطات الحكومية للبلدان نفسها، فكيف الحال بالسلطات الدولية التابعة للأمم المتحدة؟ وهذه أيضا مهمة كبيرة أمام المجتمع الدولي. لأن هذه المناطق تمثل التحدي الخطير المقبل، لكل من يرغب في إيقاف العبودية، ونشر ما أمكن من الإمكانات الخاصة بالتعليم والعمل والصحة فيها.