محمد بن عبدالله آل عبداللطيف

وعي الشعوب يشبه متجر التراثيات به تذكارات من حقبها التاريخية المتعاقبة التي تؤثر كثيراً في تصرفات حاضرها، وينطبق هذا أيضاً على تاريخها السياسي. وربما تكون إيران الفارسية، بماضيها وثقافتها أكثر الدول نكوصاً لتاريخها بحكم محدودية أفقها اللغوي والعرقي والسياسي. وهي تختلف عن معظم الثقافات المحيطة بها ولديها هاجس مستمر من الاضمحلال التاريخي كلما حاولت التمدد لفك الاختناقات الداخلية بسبب التنوع اللغوي والعرقي لشعوبها. وتاريخ إيران بالمجمل هو تاريخ الحكم الفردي المتسلط سواءً أيام كسرى أو الشاة أو الحكم الخميني الحديث. وفهم الموروثات الثقافية الإيرانية يسهل فهمها وفهم أسلوب التعامل معها.

ما كسر عزلة إيران الجغرافية هو دخول شعوبها الإسلام، حيث شكل الإسلام عامل جامع لهم كشعوب إيرانية، وحيث سهل اندماجهم مع محيطهم العربي والتركماني في حضارة إسلامية مزدهرة متميزة لعبت إيران فيها دوراً ثقافياً مهماً لكنها تركت القيادة فيها للعرب والترك. فكثير من المصطلحات الحضارية العربية ذات أصل فارسي، وقد استعان العرب بكتاب فرس لتنظيم الدولة الإسلامية أيام عمر بن الخطاب، ويقال إن العرب علموا الفرس الشعر والفرس علموا العرب النثر. ومعظم مهندسي وأطباء الدولة التركية في بداياتها كانوا فرساً، فالأتراك في بداياتهم كانوا بدواً رحلاً وليسوا أفضل حالاً من العرب. وشكل المجال العربي بدايات التوسع الثقافي الإيراني حتى قبل الإسلام. فقد سبق أن حكم الساسانيون مناطق في العالم العربي، وحكموا الشام ومصر واليمن في عام 616م قبل ظهور الإسلام بمئة عام، وهو أمر لا يبارح الذهنية الإيرانية. وبعده غزاهم العرب وقوضوا إمبراطوريتهم وادخلوهم للإسلام. وهذا الأمر يحتل الجزء الأكبر من الذاكرة القومية الإيرانية، فالإيرانيون العلمانيين يرون في العرب والمسلمين سبب كبيراً في تخلفهم مثلما كان أتاتورك يري أن الأبجدية العربية هي سبب تخلف العقلية التركية.

بقي الإيرانيون متمسكين بوعيهم التاريخي الحضاري، ومعروف أن النسب والعرق يلعبان الدور الأكبر في حياة الفرس الاجتماعية. ولذا لم يتخل الفرس عن عنصريتهم حتى بعد دخولهم الإسلام. وقد حكمهم العرب في بداية الدولة الإسلامية لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عربياً، وهذا ذكر في القرآن، وذكر في القرآن أيضاً أنه انزل بلسان عربي، مما سبب إشكال في الوجدان التاريخي الفارسي. والتاريخ الشعوبي الإسلامي كان في معظمه صراع عربي فارسي. صراع بين شعوب سامية عربية وشعوب آرية فارسية.

هذه الخلفية ضرورية جداً لفهم عقلية الدولة الخمينية الحديثة، وكذلك فهم الموقف الغربي منها، فمنها نفهم تناقض الخمينية الحديثة: فهي من ناحية تدعي الانتساب لآل البيت لتسحب من العرب شرف انتسابهم للنبي، ومن ناحية أخرى تتمسك بآرية الشعب الفارسي بالنظر للعرب كعرق أدنى. مع أنه يستحيل أن يكون النسب الشريف فارسياً. وقد أكد شاه أكثر من مرة على الانتماء الآري لإيران وكون اللغة الفارسية لغة هندو-أوروبية، وهي في الواقع كذلك. واحتفل الشاة بهذا الانتماء في مناسبات باذخة كثيرة احتفى بها بإمبراطورية قوروش وحرص على دعوة الأسر المالكة، والزعامات الأوربية. فصور الشاه الشعب الإيراني كشعب أوروبي يعيش في الشرق الأوسط. وهذا ما لا يفهمه للأسف كثير من الشيعة العرب الذي انساقوا خلف إيران لأسباب مذهبية فقط.

أما الغرب فلدية عنصرية دفينة ضد العرب غذتها عقوداً من السينما اليهودية في هوليوود. ولم يسبق للغرب أن عامل العرب باحترام، بل كان دائماً يراهم متخلفين وخصم تاريخي عنيد. وينظر لإيران الفارسية على أنها الحضارة الوحيدة في المنطقة كونها ثقافة آرية.. فالآريون في نظر الغرب أساس الحضارة الإنسانية، وهم العرق الأجدر بالاحترام في العالم. والإرث العنصري النازي لم يختف تماماً عن الإرث الإيراني في نظرته للمنطقة. وهذا أمر تجاهله الإعلام المقاوم لإيران.

ومهم جداً أخذ هذه الثوابت التاريخية في حسابات الأزمات الحالية، والأهم هو الحذر في التعامل مع المواقف الغربية من الصراع العربي الفارسي في المنطقة الذي يأخذ مظهراً مذهبيًا. فالخميني لجأ للغرب، ودعمه الغرب للاستيلاء على السلطة، وكثير من الغربيون يرون إيران أجدر بحكم المنطقة، ولذا فقد دعموها سراً بالسلاح خلال حكم ريجان حتى لا تسقط تماماً أمام العراق، ودعموها سراً أيام حرب الخليج الثانية لتحصل على ما حصلت عليه من تصنيع عسكري. ورغم التهديدات الفارغة المتكررة، لم تتخذ الحكومات الغربية أي مواقف صارمة ضد إيران فيما عدى عقوبات اقتصادية تخرق بمختلف الطرق الممكنة بعلم المخابرات. وقد صرح كثير من الساسة الغربيين بضرورة تأهيل إيران لتلعب دوراً حيوياً في السياسة العالمية لأنهم يثقون بها كشعب آري أكثر مما يثقون بالعرب الذين ينظر لهم كمصلحة اقتصادية وقتية فقط. ويحاول الغرب بشتى الوسائل تقطيع أوصال الوطن العربي سياسياً واقتصادياً ومذهبياً ربما لصالح إيران وإسرائيل. فالتاريخ لا يغيب تماماً ولا يلبث أن يطل برأسه البغيض في أي صراع حالي.