حسن حنفي

 تغلب على المثقف العربي عدة سمات، تبدو واضحة للجميع أثناء حضوره للاجتماعات العامة والمنتديات والمؤتمرات الثقافية. هي سمات تكشف عن لحظة تاريخية معينة تمر بها كل الشعوب النامية، والمثقفون فيها يكوّنون نخبة متميزة. عليهم مسؤولية التوعية والتوجيه. قد يستثنى منها البعض الذي يؤثر الصمت والفرجة، وملاحظة ما يحدث. ويحول موضوع اللقاء إلى كيفية الحديث عنه. هي ملاحظات فعلية ومشاهد واقعية، وليست تأملات نظرية أو افتراضات علمية. كما أنها لا تمثل أيضاً نقداً للمثقفين بل هي اعتراف بالحالة الراهنة للثقافة العربية حين الممارسة في اللقاءات والمنتديات العامة. ويمكن رصد الملاحظات الآتية:

1- قد يتحدث المثقف العربي عن نفسه. فهو الأكبر سناً، والأكثر خبرة. كل الحاضرين تلاميذه المباشرون أو من خلال قراءة مؤلفاته. وهو ما يسمى في علم النفس «التمركز حول الذات». ينسى الموضوع المطلوب تحليله ويتحدث عن الذات ومدى معرفتها الشاملة به. يصبح هو بديلاً عن الموضوع كما هو الحال في شخصية البطل على خشبة المسرح أو المسرحية ذات البطل الواحد، وتحويل المشاركين كلهم إلى متفرجين!

2- يزيح الآخرين إذا ذكّره أحد بالإطالة. فهو صاحب الخطاب الأوحد والذي يحمل الحقيقة كلها، وعلى الآخرين الاستماع والتعلم. لا يتوقف عن الحديث. فهو المتحدث والرئيس في وقت واحد. وإذا اعترض عليه أحد الحاضرين لإطالة حديثه أو لمضمونه فإنه يستأنف الحديث ليرد على الاعتراض. فحديثه لا يُرد. فماذا سيضيف الآخرون بعد خطابه الذي حوى كل شيء؟

3- يتعالم في الحديث. ويذكر أسماء الأعلام العربية والأجنبية ليبين سعة معلوماته، وتنوع مصادره. ويا حبذا لو أرفق ذلك بمصطلحات أجنبية معربة مثل أيديولوجيا، وإبستمولوجيا، وأنطولوجيا، وأكسيولوجيا. وقد يستعملها في أصولها الأجنبية، الإنجليزية أو الفرنسية، ليبين مصادر تعليمه وأصول ثقافته الأجنبية التي لا تعتمد فقط على الموروث الثقافي العربي الذي يشارك فيه كل الحاضرين. وما زال في اللاوعي العربي أن ثقافة الغرب الوافدة أكثر تمدناً وتحضراً من الثقافة العربية الموروثة!

4- يكرر الحديث أكثر من مرة. فلربما لم يقتنع أحد بما قال في المرة الأولى أو لم يستمع إليه جيداً. وقد يتم التكرار بنفس الصيغ البلاغية أو قد تتغير التشبيهات والأمثلة. فالإنشاء لا نهاية له. الكلام همّ ورغبة وشوق. فلابد أن يفرّج عن همه، ويحقق رغبته، ويعبر عن شوقه.

5- يتخفى وراء العبارات الإنشائية والصياغات الأدبية والقدرة على الإلقاء. يؤثر بالشكل دون المضمون. فالألفاظ قائمة بذاتها. والخطاب تركيبات لفظية دون مضمون. والمضمون يمكن التعبير عنه بأقصر العبارات وأقل الألفاظ. تحول الخطاب إلى بالون كبير بداخله مجرد هواء مضغوط. لم تعد للألفاظ معانٍ ولا للخطاب دلالات. فليس المقصود هو الفكر بل القول. ولذلك غلبت على الخطاب العربي الإنشائية في ثقافة بلاغية، تبدأ من اللفظ وتعود إليه. والتكرار هو أساس التقليد، تكرار المحدَثين للقدماء، وهو أساس التلقين، تكرار الطلاب للأساتذة.

6- يبدأ خطابه بأن ما يقوله مهم جداً لم يسبقه إليه أحد حتى يسترعي الانتباه. وفرق بين الخطاب العادي المكرر المعروف والخطاب الاستثنائي الإبداعي. ربما يكون الجديد في الصوت، انخفاضاً أو ارتفاعاً. وعادة ما يكون ارتفاعاً أكثر منه انخفاضاً. فإذا ما دقق المستمع أين تكمن أهمية الخطاب فلا يجد.

7- ويمتلئ الخطاب بالماينبغيات التي تبدأ بفعل «يجب». فما أسهل إن غاب تحليل الواقع المشاهد أن يهرب المتكلم إلى المثال، ما ينبغي أن يكون. فما أسهل التمني والأمنيات. وبالتعبير الشعبي «أبو بلاش كتّر منه». فالماينبغيات لا تكلف شيئاً، ولا سقف أو حدود لها. كلها أوهام في الهواء. تعبر عن طموحات المستمعين وتحقيقها على مستوى القول والاستماع.

8- ويتحدث بالعامية وسط الفصحى، وبالفصحى وسط العامية ليرضي الجمهورين، النخبة والجماهير، يتكلم بالفصحى لأنه مثقف عالم أقرب إلى الأزهر أو إلى المجمعي، عضو المجمع اللغوي. ويتكلم بالعامية لأنه ابن بلد لم يفقد جذوره الشعبية. ولا ضير من استعمال بعض الأمثال العامية وإطلاق بعض النكات حتى يضحك المستمعون بدلاً من أن يصيبهم الملل من طول الخطاب وفراغ مضمونه. والعامية جزء من الخطاب المسرحي.

9- يتملق الجهات سواء الحاضرة على المنصة أو الهيئة المنظمة للمؤتمر حتى يُدعى مرة ثانية ويظهر أنه «على الخط» دون شغب. يستحسن اختيار الموضوع لحكمة المنظمين وحسن درايتهم ووعيهم بل ووطنيتهم. يعرض خدماته الحالية والمستقبلية كما أدى خدماته الماضية. فهو مستعد لكل المؤتمرات وللإعلام. ولديه كل المبررات الثقافية لما يُطلب منه. وياليت تضاف إلى ذلك مكافأة مالية مجزية أو منصب ثقافي إعلامي ما دام قادراً على أداء الوظيفة.

لا تنطبق هذه السمات على مجموع المثقفين بل فقط على بعض أعلاهم صوتاً، وأكثرهم حضوراً، وأبرزهم اسماً. إنما لا يخلو مؤتمر أو ندوة أو لقاء منه. وسيستمر ذلك إلى حين، حتى تنتقل الثقافة من مرحلة الإعلام إلى مرحلة العلم، من مرحلة القول إلى مرحلة الفكر. وقد يحتاج ذلك إلى عدة أجيال.

-----------------