محمد مكتوب

 كانت للخطاب الملكي وسط الشعب انتظارات مثلما كانت له تحديات، وهذا ما جسده تعدد المواقف وتنوعها، فمنهم من اعتبره طفرة في سيرورة علاقة الملك بالشعب، ومنهم من كان يرغب في أن يتضمن تحديا فعليا وقرارات صارمة.. وعلى العموم تراكمت الأحداث ونتج عن بعضها غليان نسبي ومواقف مختلفة جعلت الأحزاب والمواطنين في خنادق متباينة يعلوها السخط والتذمر، ولولا أن رفعت شعارات مناهضة لوحدة الوطن وسيادته لكان الأمر يختلف ولسارت الاحتجاجات سير الهشيم.

موقف الأحزاب:

من المعلوم أنّ أغلب السياسيين تفادوا التعليق الصريح، والجهر بالمواقف، ولكنهم لجؤوا إلى التلميح والوشوشة في وجل، ورددت قواعدهم مواقفهم، فبعضهم اعتبروا أن ما جاء في الخطاب الملكي من نقد لاذع للسياسيين لا يعنيهم، وهم ليسوا مسؤولين عن أسبابه، بل السلطة هي التي أوصلتهم إلى ما هم عليه من تملق وسوء تدبير وانعدام للمسؤولية وغياب للجدية.

ولكن هذا التبرير ينطبق عليه القول المشهور: العذر أكبر من الزلة، إذ كيف تسقط الأحزاب في فخ السلطة إن كان ما يدعيه هذا الطرف صحيحا؟ وكيف تتنازل عن مبادئها وكبريائها وتخون تاريخها ومناضليها وتكتفي بما تمليه عليها السلطة المركزية لترضيها من أجل حقيبة؟ وكيف أن القوة التي كانت تتمتع بها حكومة اليوسفي في عهد الحسن الثاني، والجرأة والتوافق السياسي بين الأحزاب الحاكمة آنئذ تتحول بعد عقدين إلى كائنات تابعة ليس لديها إلا هامش رمزي للعمل والمناورة، بدل أن تكون لديها استمرارية تكرس المكتسبات السابقة؟.

وكيف تتحول حكومة اليوسفي التي كانت تتمتع بسمعة طيبة داخل الوطن وخارجه في أوروبا وفي دول أمريكا اللاتينية إلى حكومة يشار إليها بكثير من الريب والضعف في الوطن وخارجه، تنجح فيها المواقف الهجينة على حساب التوجهات والأيديولوجيات والقناعات، وتتحقق فيها المصالح الضيقة على حساب المصالح العليا للوطن؟.

لا يحق لهذا الطرف أن يفسر ضعفه بتدخل الدولة في سيرورته ومصيره، بل كان عليه أن يصمد ويتشبث بمواقفه وبمبادئه، ولا تغريه المناصب والمكافآت.....

المواطنون وسوء الظن:

أما المواطن العادي فكان له رأي آخر، فقد تسربت إليه الانتقادات في خضم الاهتمام الذي أولاه الملك لإفريقيا، واتخذ هذا النقد بعدا اقتصاديا وبعدا سياسيا، وسببه سوء الظن، وعدم تقبل الشعب هذا الاهتمام الكبير والمفاجئ بالدول الإفريقية.

إلا أن في هذا الموقف جانبا إنسانيا قويا، يجسد رغبة الشعب في أن يكون الملك له وحده، وأن يهتم به دون غيره، وهو بالتالي انتقاد أشبه بنقد الابن للأب أو للأم اللذين يبديان اهتماما مؤقتا بغيره في لحظة ما، لاسيما أن البعد السياسي الذي كان يرمي إليه هذا الاهتمام لم يكن في مقدور الكثيرين استيعابه، ولم يكن من الجائز التركيز عليه وتفسيره، لأنه كان يتضمن أوراقا سياسية واقتصادية إستراتيجية ....

والبعد الثاني الذي كان أكثر وقعا على العامة بل أحيانا حتى على الخاصة هو العامل الاقتصادي...

فهؤلاء كانوا يرون أن المغرب أولى بالمشاريع والمرافق التي أنجزت في كثير من الدول الإفريقية، وفي اعتقادهم أن ذلك هبة من أموال الدولة، وأن أمواله تبذر من غير طائل والشباب في أمس الحاجة إليها، وهم يجهلون قيمة وأهمية استثمار البلد في الخارج. وصرف الأموال في استثمار خارج الوطن لا يعتبر بأي حال من الأحوال هبة أو عطاء، بل هذه المشاريع المقامة في الخارج هي التي تنتج فائض القيمة، وهي من أسباب التقدم والازدهار بغض النظر عن مصدر رأس المال أهو القطاع أو القطاع الخاص، لأن مآله الوطن، فالمال الذي يستقر في خزانات الوطن لا ينمو إلا عن طريق عمال الخارج أو عن طريق بيع الفائض من المعادن والثروات، أو من الصناعة، أو عن طريق الاستثمار والتقدم العلمي....

موقف ثالث:

لكن كيف أفهم الخطاب بعيدا عن الخلفيات والأيديولوجيات؟.. فكما روي عن الحسن الثاني أنه قال للسيد علي يعته: لم أجد من أشتغل معه، قد يجري ذلك على محمد السادس، والقول: الملك هو صاحب العقد والحل، نوع من الهروب خلف القصر. والخطاب الذي يلجأ فيه الملك إلى النصح وإلى النقد الشامل والعام، وكأن الدولة تقوم على الأخلاق لا على القانون هو دعوة ضمنية إلى الشعب ليقف بجانبه وينهض للدعوة إلى تطبيق القانون ومحاسبة هرم السلطة من الأسفل إلى القمة، ومحاسبة المواطن العادي الذي يعتبر خرق القانون شجاعة وحرية ونوعا من التمرد الحضاري على الوضع، والتشبث بمظاهر التخلف حق اجتماعي.

فمن ذهنيات المغاربة المشينة التظاهر بالعمل والوفاء في حضرة المسؤولين.. فقد حضرنا جميعا عدة تظاهرات رسمية وفي قطاعات مختلفة ورأينا كيف يبذل المشرفون عليها كل جهدهم في تهيئة الفضاء وإحضار واستقبال الضيوف، وفي كلمات الترحيب والتمجيد بكل الأنواع البلاغية، ولكن بمجرد خروج الوفد الرسمي يتغير كل شيء، ويفتر الوضع ولو أن البرنامج لم يشرف على النهاية بعد، وقد تنقل التجهيزات إلى مرفق آخر في مدينة أخرى إذا كان الأمر يتعلق بمستشفى أو مؤسسة عمومية... وهذا معروف عند العام والخاص والجرائد تعج بهذه الأخبار، فهل فتح تحقيق ما في قضية مشابهة؟.

ومن ذهنيات الدولة إصدار قوانين وتغييب أساليب الإنزال والمتابعة، وترك مجال واسع لغض الطرف عن الجرائم والتملص من المسؤولية والمناورة، وتكريس وضعية الفساد بكل أنواعه....

فنية الملك حسنة ورغبته في تغيير الوضع قوية، لكن لا داعي للتوسل والنصح أمام نصوص دستورية وقانونية بينة، ولا داعي لالتزام الأخلاق والإنسانية أمام عدالة تعلو على الجميع، ولاسيما إذا تحققت لها الاستقلالية.

ففي بعض بلدان أوروبا يستحيل خرق القانون مهما كان الفعل بسيطا، فعدم التدخين في الأماكن العمومية، وعدم التوقف في أماكن لا يسمح بها، ليس قناعة، ولا قيمة خلقية، بل خوفا من الذعيرة، عند المغاربة في هذه البلدان على الأقل، حيث يقولون "مافيا ما يخلص خمسين أورو".

وهذه القوانين التي تمنع هذا وذاك من الإقدام على هذه الأفعال موجودة بالمغرب ولكن...

وحدث عن المحسوبية ولا حرج، فالمغاربة سواسية أمام القانون حسب الدستور ويتمتعون بنفس فرص الشغل، لكن مغن معروف يصرح في برنامج تلفزيوني بأنه توسط لتوظيف بعض أقاربه، فهذه هي المهزلة، وهذا واحد من جيش من المحسوبين وذوي الامتيازات الذين يعج بهم البلد في كل المدن والقطاعات، فكم من رجل أمن محظوظ وظف أبناءه؟ وكم من إداري وهب النجاح لأهله وذويه في المباريات والامتحانات...؟.

كنت في "تاكسي" في الملتقى الطّرقي الكبير قرب باب الرواح بالرباط، ورأيت كيف يتهافت السائقون على خرق القانون وتجاوز الضوء الأحمر، فأبديت بعض العجب واستفسرت سائق "التاكسي" عن سر ذلك، فقال: "هنا البوليس إخافْ إِوقَّفْ شِي واحَد ويكون ولدْ شِي شَخْصِية"، فكيف يقف الملك في الضوء الأحمر وأبناء الشخصيات لا يقفون، بل قد يسبون شرطي المرور ويمتنعون عن أداء الذعيرة....؟ هل هؤلاء يحتاجون إلى النصح؟

وما ينطبق على هذا وذاك ينطبق على البرلمانيين والوزراء والمسؤولين الكبار. وإذا القضية تقوم بوجود متضرر وشكوى أليس ضد هؤلاء المسؤولين شكاوى؟ ألم يستعملوا الشطط في سلطتهم؟ ألم يتطاولوا على الملك العام؟ ألم يبذروا المال العام؟.. إذن فلا داعي بعد هذا الإنذار أن نطلب منهم مرة أخرى اتقاء الله في هذا الشعب، وإنما نطبق عليهم القانون من خلال محاكمات عادلة بعيدا عن المحسوبية؛ فما علينا إلاّ أن نحسن السمع لمعاناة الشعب الحقيقية، وعندما ينثني الكبار عن مخالفة القانون يسهل على الشعب احترامه وتطبيقه.