زيد الحلي 

في أوائل حزيران سنة 2014 كتبت ُمقالا في (الزمان) حييتُ فيه البنك المركزي العراقي على خطوة هادئة، عالج فيها قضية متعلقة بشأن مجتمعي، وحل اشكالاً، كان يحدث يوميا بين المواطنين، ومما قلته في ذلك المقال : (في الوقت الذي يزداد فيه حجم الصراع السياسي بين الكتل السياسية دون النظر الى آثار ذلك الصراع على المجتمع، وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه مشكلاته، نجد ان سلطة المال العراقية تلتفت الى مشكلات المواطنين، وتسعى الى حلها بإجراءات ملموسة، بعيداً عن الصخب الإعلامي، مثلما يحدث في اروقة السياسة، ففي خطوة مشكورة، بادر البنك المركزي العراقي الى حل مشكلة الأوراق المالية التالفة، بأخرى جديدة، وبذلك تم فك الاختناق الحاصل بين مستويات شرائح عديدة من المجتمع التي تتعامل يوميا بتلك الأوراق التي تهرأت بحكم التقادم وسوء الاستخدام ..) الخ.

واجدني في هذا الاسبوع، احملُ راية الامتنان الى البنك المركزي العراقي، لتفوقه على السياسيين العراقيين من جديد، لهدوئه في تقديم الحقائق الى الشعب، دون ان تأخذه هبة الاستعجال التي نلمسها عند الكثير من المسؤولين التشريعيين والتنفيذيين، الساعين الى ابداء آراء ومعلومات مُجتزئة من تقارير تفتقر الى الصدقية.

لقد انتظر البنك مدة ليست بالقصيرة، حتى اكتملت لديه صورة وحجم الخسائر المالية التي نجمت عن احتلال (داعش) لأجزاء من ارض الوطن، دون ان يشغل الرأي العام، ويحدث بلبلة مجتمعية، فذكر في بيان رصين، ودقيق حجم تلك الخسائر، ولو قارنا الاسلوب الهادئ في هذا البيان، وبين ما كنا نشاهده من تصريحات وارقام على الفضائيات العراقية، التي سببت هلعاً لدى آلاف الاسر والعوائل، سنجد بوناً شاسعاً، ولن تنسى ذاكرتي، مشاهدتي لمسؤول (بارز) معطياً بصوت عال، مرتجف، ارقاما عن الخسائر المالية الناجمة عن احتلال تم قبل يومين ..! و الغريب ان هذا الرجل بعيد عن الاقتصاد والمال .. لكنه من ” جوقة ” المستعجلين.. وما اكثرهم، فـ “الاستعجال” اصبح سمة بارزة على الخارطة العراقية .. مع الاسف!

وفي العودة الى بيان البنك المركزي العراقي، الصادر الثلاثاء الماضي، نعرف ان خسارته بلغت 856 مليار دينار وقرابة 100 مليون دولار (قرابة المليار دولار اميركي) بسبب استيلاء تنظيم (داعش) الإجرامي على فروعه المتوزعة عل ثلاث محافظات… وأن (الجهاز المصرفي العراقي تعرض ما بعد احداث 15 حزيران من عام 2014، الى انتكاسة كبيرة بسبب سيطرة عصابات داعش على ثلاث محافظات هي نينوى والانبار وصلاح الدين، واجزاء مهمة من محافظة ديالى) مبينا ان (داعش سيطر على قرابة 121 من فروع المصارف الحكومية والخاصة بما فيها الفرع التابع للبنك المركزي العراقي) والى آخر البيان.

لقد ابتعد البنك، عن اية تصريحات مالية عقب جريمة داعش باحتلال اجزاء من ارض العراق، لقناعته وايمانه، بأن ذلك سيحدث شرخاً مجتمعيا مضافاً الى جراح المواطنين، فالذين لهم اصول مالية وممتلكات وودائع واسهم، يعدون بالآلاف، وهم يشكلون ركيزة اجتماعية واسعة، كان من الضروري التريث قبل اعلان الحقائق المالية، بالدقة التي قرأناها في بيان البنك المركزي العراقي.

وها هي وقائع الحياة، تثبت ان صحة ما هو فردي هو صحة لما هو اجتماعي، كما ان الذات الصحيحة هي اصل كل الاشياء، دون اعتبارات لأية اطراف اخرى، والوعي الصحيح بالذات، هو اصل الوعي الصحيح بالآخر، والمسؤولية الاجتماعية هي احدى القنوات التي تدعم المصلحة العامة وعنصر اساسي مطلوب لتمتين روابط الصدق في العلاقات الانسانية والاجتماعية، وقد راعى البنك، الذي يمثل الهرم المالي في العراق، كل الحقائق، بعيدا عن (آفة) الاستعجال التي استشرت في معظم مفاصل الدولة، فالإعلام هو مسؤولية كبيرة، وله تأثير كبير على الرأي العام، وان المسؤولية في ذكر الحقائق، لاسيما المتعلقة بمال الوطن، أمانة وليست مكاسب، فالصدق أهم القيم الخلقية الدالة على ايمان المسؤول بثقل المسؤولية التي يتحملها، وعكسها الكذب، الذي يعد جوهر النفاق والتدليس!

فلنتعلم من هدوء البنك المركزي العراقي، ونبتعد عن الاستعجال وذكر الوعود .. فالمسؤول الناجح هو الذى يغلق فمه قبل أن يغلق الناس آذانهم، ويفتح أذنيه قبل أن يفتح الناس أفواههم .. ولا يترك لسانك يسبق عقله.. فهل وصلت الرسالة؟