كمال زاخر موسى 

قد نكون بحاجة إلى الإقرار بأن طرح الإشكاليات القبطية طرحاً عاماً يحوطه من المحاذير ما يحوله إلى ما يشبه الطرح المُعلَّب، ويستوى فى هذا ما يتعلق بالمجتمع القبطى الخاص وما يخص علاقاته بالمجتمع العام، وهو أمر تشكل وتبلور منذ لحظات تأسيس الدولة الحديثة التى عرفناها مع محمد على (1805م.)، وانتقل وتكرس بامتداد حكم الدولة العلوية، وبقى مع أنظمة يوليو المتعاقبة، ولم تنتبه إليه أنظمة ما بعد ثورتى 25 / 30، ربما بفعل فقه الأولويات برؤية القوى الفاعلة فى المطبخ السياسى. وكانت أبرز معالمه بحسب توصيف الراحل الدكتور ميلاد حنا «اختزال الأقباط فى الكنيسة»، الحاضرة دوما كممثلة لهم فى مجالس الوالى بدءاً من محمد على. 

تنبع الإشكالية من النظر إلى الأقباط فى الفضاء المجتمعى، وربما السياسى، باعتبارهم أقلية ويدعم هذا الإصرار على التعتيم على عددهم الحقيقى، دون تبرير مقنع، وترك الأمر لتخمينات تحكمها أهواء متضاربة، وهواجس لم تعد لها محل فى دولة المواطنة، والتى تقر الحقوق والواجبات بمنأى عن العدد والنسبة العددية، وهو ما أقره الدستور المصرى فى نسخته الأخيرة (2014) المادة (53) (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.). 

شهد حراك 25 يناير تغيراً نوعياً فى مشاركة الأقباط فى الهم العام بعد عقود من تسكينهم خلف أسوار الكنيسة، وكان العنصر الفاعل فى هذا الحراك هم شباب الأقباط الذى خرجوا وقتها بالكنيسة إلى الوطن، ولم يكن هذا بعيداً عن التغيرات التى يشهدها العالم بجملته وهو يتحرر من نسق المجتمع الأبوى، إلى براح فضاءات التواصل وشيوع المعلومة وسيولة المعرفة مع ثورة الاتصالات. ولم ننتبه مجدداً أن خروج الأقباط فى حراك 30 يونيو كان سعياً لحماية الوجود، وجود الوطن ووجود الأقباط، بعد تصاعد وتيرة تفكيكه ودفعهم للخروج منه، ولم يكن الأمر ابداً صراعاً دينياً، من جانبهم على الأقل. ولم ننتبه أن استمرار استهداف الأقباط خرج من دائرة الصراع الدينى بشكله الفج ليصير مدخلاً وطريقاً لإسقاط الوطن والدولة، باعتبارهم العصب الملتهب المزمن وباعتبارهم رقما مفصلياً فى معادلة 30 يونيو، وخروجهم من المعادلة كفيل بتفكيكها ومن ثم إسقاطها. 

لكن الصدمة التى تُفاقم ملف الإشكاليات القبطية أن التعامل مع مفرداته لم يتغير، حتى اللحظة، فى مضمونه، ومازال يخضع لرد الفعل، والإحالة إلى المسكنات، وإلى الحلول العرفية، وعدم امتلاك القدرة، ولا أقول الإرادة، على تفكيك مدخلات الأزمات أو تجفيف المنابع، وعدم الإقرار بأن اربعة عقود ـ على الأقل ـ كانت كفيلة بتفخيخ منظومة القيم المصرية التى انتجت التلاحم الوطنى ورسمت مسار الثورة المصرية، ومازلنا نراهن على الذهنية المصرية فى غير اقرار بما أصابها من تغير عنيف بفعل التحولات التى شهدتها مع الغزو الدينى المتشدد والمتطرف مع حلول سبعينيات القرن الماضى وربما قبلها على استحياء. ولننتبه إلى خطورة اختزال اشكاليات الأقباط فى بعض المطالب؛ التعيينات الوظيفية أو المواقع السياسية، أو التمثيل النيابى، أو المحاصصة، فهذه كلها لا تقيم مناخاً سوياً ويمكن الالتفاف عليها، والخبرات فيها مؤلمة، ولا تؤسس لدولة مدنية عمادها العدالة والمساواة وأساسها المواطنة. 

المدخل الحقيقى لحل هذه الإشكاليات يبدأ بقناعة الإقرار بأن الأقباط هم بالأساس مواطنون مصريون عليهم كافة الواجبات ولهم كافة الحقوق، بغير محددات أو تأويلات دينية، وأن السيادة للقانون الوضعى والدستور، والمواثيق الأممية التى قبلناها ووقعنا عليها وتعد وفق الفقه الدستورى قواعد حاكمة لا نملك الخروج عليها، وأن نعيد التوازن لمؤسسات المجتمع ومنها المؤسسات الدينية وحمايتها من التضخم حتى لا تجور على غيرها، بل تتكامل معها فى إطار الدولة المدنية. ويبقى أن معركتنا الحقيقية هى اعادة بناء الدولة المدنية كما خبرها وأقرها العالم وانطلق من خلالها الى آفاق التقدم والتنمية والرفاهية، وفيها تتحقق اركان الحرية والعدالة والمساواة، ويسترد الإنسان قيمته لكونه انساناً، ويختفى معها وفيها كل مظاهر التطرف والكراهية، عبر منظومة تعليم تبنى العقل والضمير، وثقافة تعيد بناء الوعى، وإعلام يعظم القيم الإنسانية وينشر الرقى، وقوانين تضبط العلاقات وتحمى الحقوق وتنتصر للحق.